غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

21

وأما قوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } الآية . فنقول : فيه لفظ { الذي } مع صلته ، إما أن يكون في محل النصب بدلاً من { الذي خلقكم } أو على المدح والتعظيم ، وإما أن يكون رفعاً على المدح أيضاً أي " هو الذي " ، وكلمة { الذي } موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة . فقوله { جعل لكم الأرض فراشاً } قضية معلومة فأدخل عليها { الذي } كي ينتبهوا للجاعل ويعترفوا به . والحاصل أنه تعالى عدد في هذا المقام عليهم خمسة دلائل : اثنين من الأنفس وهما خلقهم وخلق أصولهم ، وثلاثة من الآفاق جعل الأرض فراشاً والسماء بناء والأمور الحاصلة من مجموعهما وهي إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات بسببه ، وسبب هذا الترتيب ظاهر لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه ، ثم ما منه منشؤه وأصله ، ثم الأرض التي هي مكانه ومستقره ، يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه ، ثم السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المبنيّة على هذا القرار ، ثم ما يحصل من شبه الازدواج بين المقلة والمظلة من إنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الحيوان من ألوان الغذاء وأنواع الثمار رزقاً لبني آدم . وأيضاً خلق المكلفين أحياء قادرين ، أصل لجميع النعم . وأما خلق الأرض والسماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة ، وذكر الأصول مقدم على ذكر الفروع . وأيضاً كل ما في السماء والأرض من الدلائل على وجود الصانع فهو حاصل في الإنسان بزيادة الحياة والقدرة والشهوة والعقل ، ولما كانت وجوه الدلالة فيه أتم كان تقديمه في الذكر أهم .

( وههنا مسائل ) :

الأولى في منافع الأرض : الفراش اسم لما يفرش كالمهاد لما يمهد والبساط لما يبسط ، وليس من ضرورات الافتراش أن يكون سطحها مستوياً كالفراش على ما ظن ، فسواء كانت كذلك أو على شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع لعظم جرمها وتباعد أطرافها . ولكنه لا يتم الافتراش عليها ما لم تكن ساكنة في حيزها الطبيعي وهو وسط الأفلاك ، لأن الثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أن الخفاف بالطبع تميل إلى فوق ، والفوق من جميع الجوانب ما يلي السماء ، والتحت ما يلي المركز ، فكما أنه يستبعد صعود الأرض فيما يلينا إلى جهة السماء ، فليستبعد هبوطها في مقابلة ذلك ، لأن ذلك الهبوط صعود أيضاً إلى السماء ، فإذن لا حاجة في سكون الأرض وقرارها في حيزها إلى علاقة من فوقها ، ولا إلى دعامة من تحتها ، بل يكفي في ذلك ما أعطاها خالقها وركز فيها من الميل الطبيعي إلى الوسط الحقيقي بقدرته واختياره { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } [ فاطر : 41 ] ومما منَّ الله تعالى به على عباده في خلق الأرض أنها لم تجعل في غاية الصلابة كالحجر ، ولا في غاية اللين والانغمار كالماء ، ليسهل النوم والمشي عليها ، وأمكنت الزراعة واتخاذ الأبنية منها ويتأتى حفر الآبار وإجراء الأنهار . ومنها أنها لم تخلق في نهاية اللطافة والشفيف لتستقر الأنوار عليها وتسخن منها فيمكن جوارها . ومنها أن جعلت بارزة بعضها من الماء مع أن طبعها الغوص فيه لتصلح لتعيش الحيوانات البرية عليها ، وسبب انكشاف ما برز منها وهو قريب من ربعها أنها لم تخلق صحيحة الاستدارة بل خلقت هي والماء بحيث إذا انجذب الماء بطبعه إلى المواضع الغائرة والمنخفضة منها بقي شيء منها مكشوفاً ، وصار مجموع الأرض والماء بمنزلة كرة واحدة يدل على ذلك فيما بين الخافقين . تقدم طلوع الكواكب وغروبها للمشرقين على طلوعها وغروبها للمغربين ، وفيما بين الشمال والجنوب ازدياد ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الخفي للواغلين في الشمال ، وبالعكس للواغلين في الجنوب ، وتركب الاختلافين لمن يسير على سمت بين السمتين إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة يستوي في ذلك راكب البر وراكب البحر . ونتوء الجبال وإن شمخت لا يخرجها عن أصل الاستدارة لأنها بمنزلة الخشونة القادحة في ملاسة الكرة لا في استدارتها . ومنها الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا موجدها . ومنها أن يتخمر الرطب به فيحصل التماسك في أبدان المركبات . ومنها اختلاف بقاعها في الرخاوة والصلابة والدماثة والوعورة بحسب اختلاف الأعراض والحاجات { وفي الأرض قطع متجاورات } [ الرعد : 4 ] ومنها اختلاف ألوانها { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود } [ فاطر : 27 ] ومنها انصداعها بالنبات { والأرض ذات الصدع }

[ الطارق : 12 ] ومنها جذبها للماء المنزل من السماء { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] ومنها العيون والأنهار العظام التي فيها

{ والأرض مددناها } [ ق : 7 ] ومنها أن لها طبع الكرم والسماحة تأخذ واحدة وترد سبعمائة { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة } [ البقرة : 261 ] ومنها حياتها وموتها { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها } [ يس : 33 ] ومنها الدواب المختلفة

{ وبث فيها من كل دابة } [ البقرة : 164 ] ومنها النباتات المتنوعة { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج } [ ق : 7 ] فاختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف طعومها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم { كلوا وارعوا أنعامكم }

[ طه : 54 ] ومنها الطعام ، ومنها الإدام ، ومنها الدواء ، ومنها الفواكه ، ومنها كسوة البشر نباتية كالقطن والكتان ، وحيوانية كالشعر والصوف والإبريسم والجلود .

ومنها الأحجار المختلفة بعضها للزينة وبعضها للأبنية ، فانظر إلى الحجر الذي يستخرج منه النار مع كثرته ، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته ، وانظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير وقلة النفع بهذا الخطير . ومنها ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة كالذهب والفضة ، ثم تأمل أن البشر استنبطوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمك من قعر البحر ، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ، لكن عجزوا عن اتخاذ الذهب والفضة . والسبب فيه أن معظم فائدتهما ترجع إلى الثمنية ، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة والقدرة على اتخاذهما تبطل هذه الحكمة فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً ، ومن ههنا اشتهر في الألسنة " من طلب المال بالكيمياء أفلس " . ومنها ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار الصالحة للبناء والسقف ثم الحطب ، وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ . ولعل ما تركنا من المنافع أكثر مما عددنا ، فإذا تأمل العاقل في هذه الغرائب والعجائب اعترف بمدبر حكيم ومقدر عليم إن كان ممن يسمع ويعي ويبصر ويعتبر .

الثانية في منافع السماء : البناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ، وأبنية العرب أخبيتهم ، ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديداً . ثم إن الله تعالى زين السماء الدنيا بالمصابيح { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] وبالقمر { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] وبالشمس

{ وجعل الشمس سراجاً } [ نوح : 16 ] وبالعرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وبالكرسي { وسع كرسيه السماوات والأرض } [ البقرة : 255 ] وباللوح { في لوح محفوظ } [ البروج : 22 ] وبالقلم { ن والقلم } [ القلم : 1 ] وسماها سقفاً محفوظاً وسبعاً طباقاً وسبعاً شداداً . وذكر أن خلقها مشتمل على حكم بليغة وغايات صحيحة

{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27 ] وجعلها مصعد الأعمال ومهبط الأنوار وقبلة الدعاء ومحل الضياء والصفاء ، وجعل لونها أنفع الألوان وهو المستنير ، وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ، ونجومها رجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وقيض للشمس طلوعاً يسهل معه التقلب لقضاء الأوطار في الأطراف ، وغروباً يصلح معه الهدوء والقرار في الأكنان لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ، وأيضاً لولا الطلوع لانجمدت المياه وغلبت البرودة والكثافة وأفضت إلى خمود الحرارة الغريزية وانكسار سورتها ، ولولا الغروب لحميت الأرض حتى يحترق كل من عليها من حيوان ونبات ، فهي بمنزلة سراج يوضع لأهل بيت بمقدار حاجتهم ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا . فصار النور والظلمة على تضادّهما متظاهرين على ما فيه صلاح قطان الأرض ، وههنا نكتة ، كأن الله تعالى يقول : لو وقفت الشمس في جانب من السماء فالغني قد يرفع بناءه على كوة الفقير الجار فلا يصل النور إلى الفقير ، لكني أدير الفلك وأسيرها حتى يجد الفقير نصيبه كما وجد الغني نصيبه . أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله سبباً لإقامة الفصول الأربعة . ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ، ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر وتقوى أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن . وفي الربيع تتحرك الطباع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء ، وينوّر الشجر ويهيج الحيوان للفساد . وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض ويتهيأ للعمارة والزراعة . وفي الخريف يظهر البرد واليبس فتدرك الثمار وتستعد الأبدان قليلاً قليلاً للشتاء . وأما القمر فهو تلو الشمس وخليفتها وبه يعلم عدد السنين والحساب ويضبط المواقيت الشرعية ، ومنه تحصيل النماء والرواء ، وقد جعل الله تعالى في طلوعه مصلحة وفي غيبته مصلحة . يحكى أن أعرابياً نام عن جمله ليلاً ففقده ، فلما طلع القمر وجده فنظر إلى القمر فقال : إن الله صوّرك ونوّرك وعلى البروج دوّرك ، فإذا شاء نورك وإذا شاء كوّرك ، فلا أعلم مزيداً أساله لك ، ولئن أهديت إليّ سروراً لقد أهدى الله إليك نوراً ثم أنشأ يقول :

ماذا أقول وقولي فيك ذو قصر *** وقد كفيتني التفصيل والجملا

إن قلت لا زلت مرفوعاً فأنت كذا *** أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا

وقد كان في العرب من يذم القمر ويقول : القمر يدرك الهارب ، ويهتك العاشق ، ويبلي الكتاب ، ويهرم الشاب ، وينسي ذكر الأحباب ، ويقرب الدين ، ويدني الحين . وكيفية ارتباط القمر وسائر الكواكب بالشمس وكمية حركتها وبيان اختلافات أوضاعها وعلل كل منها ، فن برأسه لا يحتمل إيراده ههنا . قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعدّ فيه كل ما يحتاج إليه . فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيآت لمنافعه ، وصنوف الحيوان متصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية .

الثالثة في أن السماء أفضل أم الأرض : قال بعضهم : السماء أفضل لأنها متعبد الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها ، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى : لا يسكن في جواري من عصاني . وقال تعالى : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقال : { تبارك الذي جعل في السماء بروجا }

[ الفرقان : 61 ] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدماً على ذكر الأرض . والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة ، والمؤثر أشرف من المتأثر . وقال آخرون : بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعاً من الأرض بالبركة { إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } [ آل عمران : 96 ] { في البقعة المباركة } [ القصص : 3 ] { إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } [ الإسراء : 1 ] { مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } [ الأعراف : 137 ] يعني أرض الشام . ووصف جملة الأرض بالبركة { وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام } [ فصلت : 10 ] فإن قيل : وأيّ بركة في المفاوز المهلكة ؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها ، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى ، فلهذه البركات قال تعالى : { وفي الأرض آيات للموقنين } [ الذاريات : 20 ] تشريفاً لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال : { هدى للمتقين } وخلق الأنبياء من الأرض { منها خلقناكم } [ طه : 55 ] وأودعهم فيها { وفيها نعيدكم }

[ طه : 55 ] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجداً وطهوراً . ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : { أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً } [ عبس : 25 ، 26 ] { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم } [ إبراهيم : 32 ] يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع ؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك ، فكيف الحال في الجنة ؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك نوعاً واحداً من اللبن ، والأرض تطعمك ألواناً من الأطعمة . ثم قال : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم }

[ طه : 55 ] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، ما كانت لك زلة فضلاً من أن يكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعاً لله ، فحيث دعاك مرة بالخروج إلى الدنيا خرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .

الرابعة : معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرة الله ومشيئته أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادة لها كالنطفة في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الأشياء بلا أسباب ومواد كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في هذا التدريج والتسبب حكماً يتبصر بها من يستبصر ، ويتفطن بها من يعتبر و " من " في { من الثمرات } للتبعيض . كما أنه قصد بتنكير { ماء } و{ رزقاً } معنى البعضية لأنه مفرد في سياق الإثبات ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهذا معنى صحيح ، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات ، ولا جعل الرزق كله في الثمرات فيكون كل الثمرات بعض الرزق فضلاً عن بعضها . ويجوز أن تكون للبيان كقولك " أنفقت من الدراهم ألفاً " .

ثم إن كانت { من } للتبعيض كان انتصاب { رزقا } بأنه مفعول له ، وإن كانت للبيان كان مفعولاً لا " خرج " و{ لكم } صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل مصدراً فهو مفعول به ، كأنه قيل : رزقاً إياكم . وإنما قيل : { الثمرات } على لفظ القلة وإن كان الثمر المخرج بماء السماء جماً كثيراً لأنه قصد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك " فلان أدركت ثمرة بستانه " تريد ثماره كقولهم للقصيدة " كلمة " وللقرية " مدرة " ، أو لأن القلة وضعت موضع الكثرة نحو { ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] أو تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة .

الخامسة : قوله { فلا تجعلوا } إما أن يتعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً ، لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل لله ند ولا شريك ، أو ب{ لعل } فتنصب { تجعلوا } بعده مثل { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع }

[ غافر : 37 ] في رواية حفص عن عاصم . أو ب{ الذي جعل لكم } إذا رفعته على الابتداء ، أي هو الذي نصب لكم هذه الأدلة القاطعة والآيات الناطقة بالوحدانية فلا تتخذوا له تعالى شركاء . والند المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المنادّ من ناددت الرجل خالفته ونافرته ، وندّ ندوداً إذا نفر . ومعنى قول الموحد " ليس لله ند ولا ضد " نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه . وقوله { وأنتم تعلمون } بترك المفعول معناه وأنتم من أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال . وهكذا كانت العرب خصوصاً قطان الحرم من قريش وكنانة ، لا يشق غبارهم في الدهاء والفطنة . والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً هو غاية الجهل ونهاية سخافة العقل . ويجوز أن يقدر : وأنتم تعلمون أنه لا يماثل ، أو وأنتم تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ الروم : 4 ] واعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجوب والعلم والقدرة والحكمة ، ولكن الثنوية يثبتون إلهين : حكيم يفعل الخير ، وسفيه يفعل الشر . أما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إليه كثرة : الفريق الأول : عبدة الكواكب وهم الصابئة فإنهم يقولون : إن الله تعالى خلق هذه الكواكب وهي المدبرات في هذا العلم ، فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله تعالى . والفريق الثاني : عبدة المسيح عليه السلام . والفريق الثالث : عبدة الأوثان . فنقول : لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه السلام ، وهو إنما جاء بالرد عليهم

{ وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً } [ نوح : 23 ] ودينهم باقٍ إلى الآن . والدين الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة ، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيمتنع إطباق الجمع العظيم عليه ، فوجب أن يكون لهم غرض آخر سوى ذلك . و العلماء ذكروا فيه وجوهاً : أحدها : ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي أن كثيراً من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ، ويعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وكذا الملائكة ، وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزلفى إلى الله تعالى وملائكته ، فعلى هذا السبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه . وثانيها : ما ذكره أكثر العلماء ، وهو أن الناس لما رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ، واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، بالغوا في تعظيمها . فمنهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة لله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم ، وأنها الوسائط بين الله والبشر ، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها . ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار ، اتخذوا لها أصناماً وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادة تلك الأجرام العالية ، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة . ولما طالت المدة تركوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء بالحقيقة عبدة الكواكب . وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يرتقبون أوقاتاً في السنين المتطاولة نحو الألف والألفين ، ويزعمون أن من اتخذ طلسماً في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أحوال مخصوصة نحو السعادة والخصب ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ثم نسوا مبدأ الأمر بتطاول المدة واشتغلوا بعبادتها . ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون فيه أنه مستجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله تعالى ، اتخذوا صنماً على صورته وعبدوها على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله تعالى

{ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وخامسها : لعلهم اتخذوها قبلة لصلاتهم وطاعاتهم ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظن جهال القوم أنه يجب عبادتها . وسادسها : لعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل . فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل مذهبهم عليها حتى لا يصير بحيث يعلم بطلانه بالضرورة . فإن قيل : لما رجع حاصل مذاهب عبدة الأوثان إلى الوجوه التي ذكرت ، فما وجه المنع عنها ؟ قلنا : لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بهم بلفظ الند ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط ، ولا يفيد في طريق عبادته إلا الحنيفية والإخلاص ورفع الوسائط من البين . واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج الإسكندر عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة ، واتخذوها معبودة لهم على حدة . وقد كان هيكل العلة الأولى وهي عندهم الأمر الإلهي ، وهيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصور مدورات كلها ، وكان هيكل زحل مسدساً ، وهيكل المشتري مثلثاً ، وهيكل المريخ مستطيلاً ، وهيكل الشمس مربعاً ، وهيكل الزهرة مثلثاً في جوفه مربع ، وهيكل عطارد مثلثاً في جوفه مستطيل ، وهيكل القمر مثمناً . وزعم أصحاب التاريخ أن عمرو بن لحيّ لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام ، اتفقت له سفرة إلى البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا : هذه أوثان نستنصر بها فننصر ، ونستسقي بها فنسقي ، فالتمس منهم أن يأتوا بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف بهبل ، فصار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، وذلك في أول ملك سابور ذي الأكتاف . ومن بيوت الأصنام المشهورة ( غمدان ) الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة صنعاء وخربه عثمان بن عفان . ومنها ( نوبهار ) الذي بناه منوجهير الملك على اسم القمر . ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل ( ود ) بدومة الجندل لكلب ، و( سواع ) لبني هذيل ، و( يغوث ) لمذحج ، و( يعوق ) لهمدان ، و( نسر ) بأرض حمير لذي الكلاع ، و( اللات ) بالطائف لثقيف ، و( منات ) بيثرب للخزرج ، و( العزى ) لكنانة بنواحي مكة ، و( أساف ) و( نائلة ) على الصفا والمروة . وكان قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه وهو الذي يقول :

أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعاً *** كذلك يفعل الرجل البصير