السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

وقوله تعالى : { الذي جعل } أي : خلق { لكم الأرض فراشاً } أي : بساطاً تفرش صفة ثانية ، أو منصوب بتقدير أمدح ، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى جعلها فراشاً أن جعل بعض جوانبها بارزاً عن الماء مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط وذلك لا يستدعي كونها مسطحة لأنّ كرية شكلها مع عظم حجمها واتساع جرمها لا تأبى الفراش عليها فليس في ذلك إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفاريش ، وسواء كانت على شكل السطح أو على شكل الكرة { و } جعل لكم { السماء بناء } أي : قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد وعلى المتعدد كالدينار والدرهم وقيل : جمع سماءة . والبناء مصدر سمي به المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء ومنه : بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديداً ، وقوله تعالى : { وأنزل من السماء ماء } معطوف على { جعل } والمراد بها ، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء ، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدئ إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء } ( لقمان ، 10 ) وقوله تعالى : { أنزل من السماء ماءً فسلّكه ينابيع في الأرض } ( الزمر ، 21 ) ، وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء ، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحاباً ماطراً . { فأخرج به من } أنواع { الثمرات رزقاً لكم } تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سبباً في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشائها مرتقياً من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبراً وسكوناً إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة .

تنبيه : { من } الأولى للابتداء و{ من } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فأخرجنا به ثمرات } ( فاطر ، 27 ) لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقاً كأنه تعالى قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق ، ويصح أن تكون { من } الثانية للتبيين ورزقاً مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل : أنفقت من الدراهم ألفاً ، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفاً .

فإن قيل : المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة ؟ أجيب : بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كم تركوا من جنات } ( الدخان ، 25 ) وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى : { ثلاثة قروء } ( البقرة ، 228 ) فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة { فلا تجعلوا أنداداً } أي : شركاء في العبادة .

فإن قيل : لم سمي ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله ؟ أجيب : بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أنداداً لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه :

أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

أدين أي : أطيع ، من دان أي : انقاد ، إذا تقسمت أي : تفرّقت :

تركت اللات والعزى جميعاً *** كذلك يفعل الرجل البصير

ألم تعلم بأن الله أفنى *** رجالاً كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببرّ قوم *** فيربو منهم الطفل الصغير

وقوله تعالى : { وأنتم تعلمون } حال من ضمير { فلا تجعلوا } ومفعول تعلمون متروك ، أي : وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات منفرد بوجود الذات متعال عن مشابهة المخلوقات أو مقدّر وهو أنّ الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله ، كقوله تعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } ( الروم ، 40 ) وعلى كون { وأنتم تعلمون } حالاً فالمقصود منه التوبيخ سواء أجعل مفعول تعلمون متروكاً أو مقدراً وإن كان التوبيخ في الأوّل آكد كما صرّح به «الكشاف » لا تقييد الحكم وقصره وهو النهي عن جعلهم لله أنداداً بحال علمهم فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف .

تنبيه : قال البيضاوي : واعلم أنّ مضمون الآيتين أي { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } و{ الذي جعل لكم } إلى آخرهما هو الأمر بعبادة الله والنهي عن الاشراك به تعالى والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه تعالى رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعاراً بأنها العلة لوجوبها ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معايشهم من المقلة والمظلة أي : الأرض والسماء والمطاعم والملابس فإن الثمرة أعمّ من المطعوم أي : فتعم الثمرات الملابس كالمطاعم والرزق أعمّ من المأكول والمشروب ثم لما كانت هذه أموراً لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته رتب عليها النهي عن الإشراك به . ولعله سبحانه وتعالى أراد من الآية الأخيرة مع ما دلّ عليه الظاهر وسيق فيه الكلام الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بوساطة استعمال العقل للحواس وازدواج أي : اقتران القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج أي : اقتران القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار فإنّ لكل آية ظهراً وبطناً ولكل حدّ مطلعاً . اه .

هذا روي عن الحسن مرفوعاً مرسلاً ، وظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم الظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها الخواص ، وقيل : ظاهرها تلاوتها ، وباطنها فهمها ، والحدّ أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على معرفتها .