محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

{ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون 22 } .

{ الذي جعل } خلق { لكم الأرض فراشا } بساطا ومهادا غير حزْنة ، { والسماء بناء } البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني بيتا كان ، أو قبّة ، أو خباء .

قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي كالبنيان يشد بعضه بعضا . و{ السماء } يراد بها الجنس كالسماوات ، والمعنيّ بها الكواكب السيارات قال : فجميع السماوات / أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس لها .

{ وأنزل من السماء } أي : السحاب { ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا } النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أُمِرْتُم بعبادة من هذا شأنه من التفرّد بهذه الأفعال الجليلة فلا تجعلوا له أندادا شركاء في العبادة ، أي أمثالا تعبدونهم كعبادته جمع ندّ . وهو المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ فإن قيل : كيف صلح تسميتها أندادا وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ . أجيب : بأنهم لما تقرّبوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكَّم بهم بلفظ الند شنّع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط .

{ وأنتم تعلمون } ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } {[507]} ؛ أو أنتم من أهل العلم والمعرفة والتوبيخ فيه آكد أي أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل .

ومما ينبغي التفطن له في الاعتبار بهذه الآية ما قاله الزمخشري : من أنه سبحانه وتعالى قدَّم من موجبات عبادته ، وملزمات حق الشكر له : خلقهم أحياء قادرين أولا لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ؛ ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لابد لهم منه وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلَّبه ، ومفترشه ؛ ثم خلق السماء التي هي كالقبّة المضروبة ، والخيمة المطنّة ، على هذا القرار ؛ ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المُقِلَّة والمُظِلَّة . / بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبرا ، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف . ونعمة يتعرَّفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ؛ وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقَّنوا عند ذلك أن لابد لها من خالق ليس كمثلها حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا ، وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر .

ونظير هذه الآية قوله تعالى : { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات * ذلكم الله ربكم * فتبارك الله رب العالمين } {[508]} . فمضمونه أنه الخالق ، الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره .


[507]:[30/ الروم/ 40].
[508]:[40/ غافر/ 64].