قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } يحتمل النصب والرَّفع ، فالنصب من خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون نصبه على القطع .
الرابع : أنه مفعول ل " تتقون " ، وبه قال أبو البقاء .
الخامس : أنه نعت النعت ، أي : الموصول الأول ، لكن المختار أن النعت لا ينعت ، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول ، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت ، نحو قولهم : " يا أيها الفارس ذو الجمة " {[802]} فذو الجمة نعت للفارس لا ل " أي " ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره .
أحدهما وهو الأصح : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو الذي جعل .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره قوله بعد ذلك : فلا تجعلوا لله ، وهذا فيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط ، فلا يزاد في خبره " الفاء " .
الثاني : عدم الرابط ، إلا أن يقال بمذهب الأخفش ، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو : " زيد قام أبو عبد الله " إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد ، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير ، كأنه قال : الَّذي جعل لكم ، فلا تجعلوا له أنداداً .
و " الذي " كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد{[803]} عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك{[804]} : ذهب الرجل الذي أبوه منطلق ، فأبوه منطلق قضية معلومة ، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي ، وهو يحقّق قولهم : إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل .
وإذا ثبت هذا فقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً } يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً ، والسّماء بناءً ، وذلك تحقيق قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] .
أحدهما : أن تكون بمعنى " صَيَّر " فتتعدى لمفعولين فيكون " الأرض " مفعولاً أول ، و " فراشاً " مفعولاً ثانياً .
والثاني : أن يكون بمعنى " خلق " فيتعدّى لواحد وهو " الأرض " ويكون " فراشاً " حالاً .
و " السماء بناء " عطف على " الأرض فراشاً " على التقديرين المتقدمين ، و " لكم " متعلق بالجعل أي : لأجلكم ، والفراش : قيل : البساط ، وقيل : مثلها .
وقيل : ما يوطأ ، ويُقعد عليه .
واعلم أنه - تعالى - ذكر ها هنا أنه جعل الأرض فراشاً ، ونظيره قوله : { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً }
[ النمل : 61 ] وقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } [ طه : 53 ] .
واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور :
قال ابن الخطيب{[805]} : أحدها : كونها ساكنة ؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات .
الثاني : ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر ؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن ، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها ، وتركيبها لما يراد .
وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل .
الثالث : ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية ؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا ، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليه ، فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات .
الرابع : أن تكون بارزةً من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا ، فقلب{[806]} الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [ من المياه ]{[807]} كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا .
ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية ، وهذا بعيد ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح{[808]} في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها ، فها هنا أولى .
فأولها : الأشياء المتولّدة فيها من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، والآثار العلوية والسّفلية ، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى .
وثانيها : اختلاف بقاع الأرض ، فمنها أرض رخوة ، وصلبة ، ورملة ، وسبخة ، وحرّة ، قال تعالى : { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [ الرعد : 4 ] .
وقال تعالى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] .
وثالثها : اختلاف طعمها وروائحها .
ورابعها : اختلاف ألوانها فأحمر ، وأبيض ، وأسود ، ورمادي ، وأغبر ، قال تعالى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] .
وخامسها : انصداعها بالنبات ، قال تعالى : { وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ }
وسادسها : كونها خازنةً للماء المنزل ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } [ المؤمنون : 18 ] .
وسابعها : العيون والأنهار العظام .
وثامنها : ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } [ ق : 7 ] .
وتاسعها : أن لها طبع الكرم ؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] .
وعاشرها : حَبَاتها بعد موتها { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا }
الحادي عشر : ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ } [ البقرة : 164 ] .
الثانية عشرة : ما فيها من النبات المختلف ألوانه ، وأنواعه ، ومنافعه : { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ ق : 7 ] .
وفي اختلاف ألوانها دلالة ، واختلاف روائحها دلالة ، فمنها قوت البشر ، ومنها قوت البهائم : { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [ طه : 54 ] ومطعوم البشر ، فمنها الطعام ومنها الإدام ، ومنها الرَّوَاء ، ومنها الفاكهة ، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةِ والحموضة ، ومنها كسوة البشر ؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان ، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف ، والأَبْرَيْسَم ، والجلود ، وهي من الحيوانات التي بثَّهَا الله في الأرض ، فالمطعوم من الأرض ، والملبوس من الأرض ؛ ثم قال : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن ، والله [ تعالى عالم بها ]{[809]} .
قال بعضهم : السَّماء أفضل من الأرض لوجوه :
أحدها : أن السَّماء متعبَّد الملائكة ، وما فيها بقعة عُصي الله فيها .
وثانيها : لما أتى آدم - عليه الصلاة والسلام - في الجَنّة بتلك المعصية قيل : اهبط من الجنة ، وقال الله : " لا يسكن في جواري من عَصَاني " .
وثالثها : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقوله :
{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك .
ورابعها : في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر .
وقال آخرون : بل الأرض أفضل ؛ لوجوه :
أحدها : أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] ، { فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ } [ القصص : 30 ] { إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .
ووصف أرض " الشام " بالبركة فقال : { مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] .
ووصف جملة الأرض بالبركة فقال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ } [ فصلت : 9 ] إلى قوله : { وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 10 ] .
فإن قيل : فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية ، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ ؟
قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها ، فلهذه البركة قال تعالى : { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ }
[ الذاريات : 20 ] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين ، لكن لمَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وثانيها : أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [ طه : 55 ] ولم يخلق من السماء شيئاً ، لأنه قال : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] .
وثالثها : أن الله - تعالى - أكرم نبيّه ، فجعل الأرض كلها مسجداً ، وجعل ترابها طهوراً .
الأول : أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء : بالمصابيح { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [ الملك : 5 ] .
وبالقمر { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وبالشمس : { وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] .
وبالعرش ، وبالكرسي ، وباللوح المحفوظ ، وبالقلم ، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة ، وأربعة مثبتة{[810]} بالدلائل السَّمعية{[811]} .
الثاني : أنه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شأنها سماء ، وسقفاً محفوظاً ، وسبعاً طباقاً ، وسبعاً شداداً ، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال : { وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ } [ المرسلات : 9 ] ، { وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ }
[ التكوير : 11 ] ، { إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] ، و{ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ } [ الانشقاق :1 ] ، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ }
[ الأنبياء : 104 ] ، { تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ } [ المعارج : 8 ] ، { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً } [ الطور : 9 ] . { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } [ الرحمان : 37 ] .
وذكر مبدأها فقال : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً }
الثَّالث : أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء ، فالأيدي تُرفع إليها ، والوجوه تتوجّه نحوها ، وهي منزل الأنوار ، ومحل الضياء والصّفاء ، والطهارة ، والعصمة من الخلل والفَسَاد .
والبناء : مصدر " بنيت " ، وإنما قلبت " الياء " همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة ، وقد يراد به المفعول ، و " أنزل " عطف على " جعل " و " من السماء " متعلّق به ، وهي لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من " ما " ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصبت حالاً ، وحينئذ معناها التبعيض ، وثَمَّ مضاف محذوف أي : من مياه السماء ماء .
وأصل " ماء " موه بدليل قولهم : " مَاهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ " وفي جمعه مياه وأمواه ، وفي تصغيره : مويه ، فتحركت " الياء " وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، فاجتمع حرفان خفيفان : " الألف " و " الهاء " ، فأبدلوا من " الهاء " أختها وهي الهمزة ؛ لأنها أجلد منها .
فإن قيل : كيف قال : { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } [ البقرة : 22 ] وإنما ينزل من السَّحاب ؟ فالجواب أن يقال : ينزل من السَّماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض .
قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الماء في القُرْآن على ثلاثة أوجه :
الأوّل : بمعنى الماء المُطْلَق كهذه الآية .
الثاني : بمعنى النّطفة . قال تعالى : { خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] .
وقوله : { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] .
الثالث : بمعنى القرآن . قال تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] بمعنى القرآن ، احتمله الناس على قَدَرٍ .
قوله : " فأخرج " عطف على " أنزل " مرتب عليه ، و " به " متعلق به ، و " الباء " فيه للسببية ، و " من الثمرات " متعلّق به أيضاً ، و " من " هنا للتبعيض ، كأنه قصد بتنكير{[812]} الماء والرزق معنى البعضِيّة ، كأنه قيل : وأنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات ، إنما ذكر بعض رزقهم .
أحدهما : زيادتها في الواجب ، وكون المجرور بها معرفةً ، وهذا لا يقول به بَصْرِيّ ولا كُوفِيّ إلاّ أبا الحسن الأَخْفَشَ{[813]} .
والثاني : أن يكون جميع الثمرات رزقاً لنا . وهذا يخالف الواقع ؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقاً لنا . وجعلها الزمخشري لبيان الجنس ، وفيه نظر ؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا ، وكأنه يعني أنه بيان ل " رزقاً " من حيث المعنى .
و " رزقاً " ظاهره أنه مفعول به ناصبه " أخرج " ، ويجوز أن يكون " من الثمرات " في موضع المفعول به ، والتقدير : فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات ، وفي " رزقاً " حينئذ وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً على أن الرزق بمعنى المرزوق كالطَّحْن والرِّعْي .
والثاني : أن يكون مصدراً منصوباً على المفعول من أجله ، وفيه شروط النصب موجودة .
وأجاز أبو البقاء{[814]} أن يكون " من الثمرات " حالاً من " رزقاً " ؛ لأنه لو تأخر لكان نعتاً ، فعلى هذا يتعلّق بمحذوف .
وجعل الزمخشري " من الثمرات " واقعاً موقع الثمر أو الثمار ، يعني مما ناب فيه جمع قلّة عن جمع الكَثْرة نحو : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } [ الدخان : 25 ] و{ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } [ البقرة : 228 ] ، ولا حاجة تدعو إلى هذا ؛ لأن جمع السَّلامة المحلَّى ب " أل " الَّتي للعموم يقع للكثرة ، فلا فرْقَ إذن بين الثَّمَرَات والثِّمَار ، ولذلك ردَّ المحقِّقون قول من رَدَّ على حَسَّان بن ثابت{[815]} رضي الله عنه : [ الطويل ]
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى *** وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا{[816]}
قالوا : كان ينبغي أن يقول : " الجِفَان " ، و " سيوفنا " ؛ لأنه أمدح ، وليس بصحيح ؛ لما ذكرت قبل ذلك .
و " لكم " يحتمل التعلّق ب " أخرج " ، ويحتمل التعلّق بمحذوف ، على أن يكون صفة ل " رزقاً " . هذا إن أريد بالرزق المرزوق ، وإن أريد به المصدر ، فيتحمل أن تكون الكاف في " لكم " مفعولاً بالمصدر واللام مقوية له نحو : " ضربت ابني تأديباً له " أي : تأديبه .
قوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً } " الفاء " للتسبب أي : تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد ، و " لا " ناهية ، و " تجعلوا " مجزوم بها ، علامة جزمه حذف النون ، وهي هنا بمعنى تُصَيِّرُوا .
وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون بمعنى : تُسَمُّوا ، وعَلَى القولين فيتعدى لاثنين .
وثانيهما : الجار والمجرور قبله ، هو واجب التقديم ، و " أنداداً " جمع نِدّ .
وقال أبو البقاء : " أنداداً " جمع " نِدّ " و " نديد " ، وفي جعله " نديد " نظر ؛ لأنّ أفعالاً يحفظ في فعيل بمعنى فاعل ، نحو : شريف وأشراف ، ولا يقاس عليه .
فإن قيل : بم تعلّق قوله : " فلا تجعلوا " ؟
أحدها : أن يتعلّق بالأمر أي : اعبدوا ، ولا تجعلوا لله أنداداً ، فإن أصل العبادة التوحيد .
وثانيها : ب " لعل " على أن ينتصب ب " تجعلوا " انتصاب " فَأَطَّلِع " في قراءة{[817]} حَفْصٍ .
قال الزمخشري{[818]} : والمعنى خلقكم لكي تتقوا ، وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندًّا ، فإنه من أعظم موجبات العقاب ، فعلى هذا تكون " لا " نافية ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " في جواب الترجي ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وسيأتي تأويل " فَأَطَّلِعَ " ، ونظائِرِه في موضعه إنْ شَاءَ الله تعالى .
وثالثها : بقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً } .
إذا جعلت " الذي " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شريكاً .
و " النِّدُّ " المقاوم المُضاهي ، سواءٌ كان مِثْلاً ، أو ضدًّا ، أو خلافاً .
وقيل : هو الضِّدُّ عن أبي عُبَيْدة .
وقيل : الكُفْء والمِثْلُ ؛ قَال حَسَّان : [ الوافر ]
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ *** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ{[819]}
أي : " وَلَسْتَ لَهُ بِكُفءٍ " .
وقد رُوِيَ ذلك ؛ وقال آخر : [ الرمل ]
نَحْمَدُ اللهَ وَلاَ نِدَّ لَهُ *** عِنْدَهُ الخَيْرُ وَمَا شاءَ فَعَلْ{[820]}
وقال الزمخشري{[821]} : النِّدُّ المِثْلُ : ولا يقال إلا للنّدِّ{[822]} المخالف ؛ قال جرير{[823]} : [ الوافر ]
أَتَيْماً تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا *** وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ{[824]}
ونَادَدْتُ الرّجل : خالفته ونافرته ، من : نَدَّ َيَنِدُّ نُدُوداً ، أي : نَفَر .
ومنه الحديث : " أيّ بعيرٍ نَدّ فأعياهم " {[825]} .
ويقال : " نَدِيدَة " على المبالغة ؛ قال لَبِيد{[826]} : [ الطويل ]
لِكَيْلاَ يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي *** وَأَجْعَلَ أَقَوَاماً عُمُوماً عَمَاعِمَا{[827]}
وأما " النَّد " بفتح النون فهل التَّلُّ المرتفع ، والنَّدُّ الطيب أيضاً ، ليس بعربي .
وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع{[828]} : " فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا " .
فإن قيل : إنهم لم يقولوا : إن الأصنام تنازع الله .
قلنا : لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حَالَ من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم بهم .
قوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، ومفعول العلم متروك ، لأن المعنى ، وأنتم من أهل العلم ، أو حذف اختصاراً أي : وأنتم تعلمون بطلاق ذلك ، والاسم من " أنتم " قيل : " أن " و " التاء " حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب ، وقيل : بل " التاء " هي الاسم ، و " أن " عماد قبلها .
وقيل : بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم " ميم هم ، وقد تقدّم جميع ذلك . والمعنى : إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله - تعالى - فلا تقولوا ذلك ؛ فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح . وهذا الخطاب للكافرين ، والمنافقين ، قاله ابن عباس رضي الله عنه .
فإن قيل : كيف وصفهم بالعِلْمِ ، وقد نعتهم بالخَتْمِ ، والطَّبْعِ ، والصَّمَمِ ، والعمى ؟
أحدهما : وأنتم تعلمون العلم الخاص أن الله خلق ، وأنزل الماء ، وأنبت الرزق ، وهو المنعم عليهم دون الأَنْدَادِ .
الثاني : وأنتم تعلمون وحدانيته بالفرد والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، وفي هذا دليل على استعمال حجج المعقول ، وإبطال التقليد . وقال ابن فُورك{[829]} : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، والمعنى : لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أَنْدَاداً بعد علمكم بأن الله واحد .
قال ابن الخطيب{[830]} : ليس في العالم أحد يثبت له شريكاً يساويه في الوجود ، والقدرة ، والعلم ، والحكم ، هذا مما لم يوجد ، لكن الثنوية يثبتون إلهين ، أحدهما : حكيم يفعل الخير ، والثاني : سفيه يفعل الشر ؛ وأما اتخاذ معبود سوى الله ، فالذاهبون إلى ذلك فرق .
ومنهم الصَّائبة فإنهم يقولون : إنَّ الله - تعالى - خلق هذه الكواكب ، وهي مدبّرات لهذا العالم قالوا : فيجب علينا أن نعبد الكواكب ، والكواكب تعبد الله تعالى .
الفريق الثاني : الَّذين يعبدون المسيح عليه الصلاة والسلام{[831]} .
الثالث : عبدة الأوثان . واعلم أنه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عباد النار ؛ لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان " هابيل " جاء " إبليس " إلى " قابيل " ، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه ، لأنه عبدها ، فعبدت النار من ذلك الوقت .
وقيل : لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبدة الأوثان ؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله - تعالى - عن قومه في قوله تعالى : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } [ نوح : 23 ] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودةً قبل نوح عليه الصلاة والسَّلام باقية إلى الآن ، والمذهب الذي هذا شأنه ، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة ، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السَّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري ، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه ؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك ، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما ذكره أبو معْشَرٍ جَعْفَرُ بن محمد المنجم البَلْخي{[832]} أن كثيراً من أهل " الصِّين " و " الهند " كانوا يقولون بالله ، وملائكته ، ويعتقدون أنه - تعالى - جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصُّور ، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة ، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء ، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر ، حسنة المرأى ، على الهيئة{[833]} التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة ، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزُّلْفَى إلى الله - سبحانه - وملائكته .
فإن صَحّ ما قال أبو معشر ، فالسَّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه .
وثانيها : ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب ؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة ، والأحوال المتباينة ، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب ، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس ، فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها ، وهي التي خلقت هذه العوالم ، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر ، لكنها [ خالقة لهذا ]{[834]} العالم ، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة ، والآخرون أنها هي الوسائط بين الله وبين البشر ، فلا جرم اشتغلوا{[835]} بعبادتها والخضوع لها ، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً ، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات الأجرام العالية ، ومتقرّبين إلى أشباحها الغائبة ، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجرّدوا لعبادة تلك التماثيل ، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب .
وثالثها : أن أصحاب الأحكام كانوا يعيِّنون سنين متطاولة ، نحو الألف والألفين ، ويزعمون أن [ من اتخذ ]{[836]} طلسماً في ذلك الوقت على{[837]} وجه خاص ، فإنه ينفع في أحوال مخصوصة نحو السَّعادة والخصب ، ودفع الآفات ، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عَظَّموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به ، فلمَّا بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة ، ولمَّا طالت مدّة ذلك الفِعْلِ نسوا مبدأ الأمر ، وانشغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر .
ورابعها : أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون في أنه مجاب الدعوة ، ومقبول الشَّفاعة عند الله - تعالى - اتخذوا أصناماً على صورته ، ويعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله - تعالى - على ما أخبر الله عنهم في قولهم :
{ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] .
وخامسها : لعلهم اتخذوها محاريب لصلاتهم ، وطاعاتهم ، ويسجدون إليها لا لها كما أنَّا نسجد إلى القبلة لا للقبلة ، ولما استمرت هذه الحالة ظنّ الجهال من القوم أنه يجب عبادتها .
وسادسها : لعلّهم كانوا يعتقدون جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل . فهذه هي الوجوه التي يمكن حمل هذه المقالة عليها حتى ليصير{[838]} بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل .
واعلم أنّ إقامة الدّلالة على افتقار العالم إلى الصَّانع المختار يبطل القول بعبادة الأوثان على كلّ التأويلات ، والله أعلم .
اعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة " غمدان " الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة " صنعاء " وخربه بن عفان ، ومنها " نوبهار بلخ " الذي بناه " منوشهر " الملك على اسم القمر ، ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل : ود ب " دومة الجندل " لكلب ، و " سواع " لبني هذيل ، و " يغوث " ب " اليمن " لمذحج ، و " يعوق " لمرادية همدان و " نَسْر " بأرض " حمير " لذي الكُلاَع ، و " اللات " ب " الطائف " ل " ثقيف " ، و " مناة " ب " يثرب " للخزرج ، و " العُزّى " لكنانة بنواحي " مكّة " و " أساف " و " نائلة " على " الصفا " و " المروة " .
وكان قُصَيّ جَدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن عبادتها ، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، وكذلك زَيْدُ بْنُ عَمْرو بْنِ نُفَيْلٍ{[839]} ، وهو الذي يقول : [ الوافر ]
أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ أَلْفُ رَبٍّ *** أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ ؟ !
تَرَكْتُ اللاَّتَ والعُزَّى جَمِيعاً *** كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ{[840]}