معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم } . عهدكم يا معشر اليهود .

قوله تعالى : { ورفعنا فوقكم الطور } . وهو جبل بالسريانية في قول بعضهم ، وهو قول مجاهد ، وقيل : ما من لغة في الدنيا إلا في القرآن ، وقال الأكثرون : ليس في القرآن لغة غير لغة العرب لقوله تعالى : ( قرآناً عربياً ) وإنما هذا وأشباهه وفاق وقع بين اللغتين . وقال ابن عباس : أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم ، وذلك لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فأمر موسى قومه أن يقبلوها ويعملوا بأحكامها ، فأبوا أن يقبلوها للآصار والأثقال التي هي فيها ، وكانت شريعة ثقيلة ، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع جبلاً على قدر عسكرهم ، وكان فرسخاً في فرسخ ، فرفعه فوق رؤوسهم مثل قامة الرجل كالظلة ، وقال لهم : إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم ، وقال عطاء عن ابن عباس : رفع الله فوق رؤوسهم الطور ، وبعث ناراً من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر المالح من خلفهم .

قوله تعالى : { خذوا } . أي قلنا لهم خذوا .

قوله تعالى : { ما آتيناكم } . أعطيناكم .

قوله تعالى : { بقوة } . بجد واجتهاد ومواظبة .

قوله تعالى : { واذكروا } . وادرسوا .

قوله تعالى : { ما فيه } . وقيل : احفظوه واعملوا .

قوله تعالى : { لعلكم تتقون } . لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى ، فإن قبلتم وإلا رضختكم بهذا الجبل ، وأغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار ، فلما رأوا أن لا مهرب لهم عنها قبلوا وسجدوا ، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود ، فصار سنةً في اليهود ، لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم ، ويقولون : بهذا السجود رفع العذاب عنا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

40

ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين . ( وإذ أخذنا ميثاقكم ، ورفعنا فوقكم الطور : خذوا ما آتيناكم بقوة ، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون . ثم توليتم من بعد ذلك ، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) . .

وتفصيل هذا الميثاق وارد في سور أخرى ، وبعضه ورد في هذه السورة فيما بعد . والمهم هنا هو استحضار المشهد ، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة رفع الصخرة فوق رؤوسهم وقوة أخذ العهد ، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة . وأن يعزموا فيه عزيمة . فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع ، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة . . إنه عهد الله مع المؤمنين . . وهو جد وحق ، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق . . وله تكاليف شاقة ، نعم ! ولكن هذه هي طبيعته . إنه أمر عظيم . أعظم من كل ما في هذا الوجود . فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه ، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف . ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة ، كما قال رسول الله [ ص ] وقد نودي للتكليف : " مضى عهد النوم يا خديجة " . . وكما قال له ربه : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . . وكما قال لبني إسرائيل :

( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . ( واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) . .

ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم . . لا بد مع هذا من تذكر ما فيه ، واستشعار حقيقته ، والتكيف بهذه الحقيقة ، كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة . فعهد الله منهج حياة ، منهج يستقر في القلب تصورا وشعورا ، ويستقر في الحياة وضعا ونظاما ، ويستقر في السلوك أدبا وخلقا ، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير .

ولكن هيهات ! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها ، وغلبت عليها جبلتها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (63)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 )

وقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم } ، { إذ } معطوفة على التي قبلها ، والميثاق مفعال من وثق يثق ، مثل ميزان من وزن يزن ، و { الطور } اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم : { الطور } اسم لكل جبل ، ويستدل على ذلك بقول العجاج : [ الرجز ]

دانى جناحيه من الطور فمرْ . . . تقضّيَ البازي إذا البازي كسرْ( {[729]} )

وقال ابن عباس أيضاً : { الطور } كل جبل ينبت ، وكل جبل لا ينبت ليس بطور ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا( {[730]} ) كله على أن اللفظة عربية ، وقال أبو العالية ومجاهد : هي سريانية اسم لكل جبل .

وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة ، قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ، ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، فقالوا : لا ، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين ، طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم ، وأضرم ناراً بين أيديهم ، فأحاط بهم غضبه ، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق ، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء : لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق ، وكانت سجدتهم على شق ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفاً ، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها ، فأمروا( {[731]} ) سجودهم على شق واحد .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم ، لأنهم آمنوا كرهاً وقلوبهم غير مطمئنة( {[732]} ) ، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية ، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية ، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة بصعقة السبعين .

وقوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } في الكلام حذف تقديره : وقلنا خذوا ، و { آتيناكم } معناه أعطيناكم ، و { بقوة } : قال ابن عباس : معناه بجد واجتهاد ، وقيل : بكثرة درس ، وقال ابن زيد : معناه بتصديق وتحقيق ، وقال الربيع . معناه بطاعة الله .

{ واذكروا ما فيه } أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده ، ولا تنسوه وتضيعوه( {[733]} ) ، والضمير عائد على { ما آتيناكم } ويعني التوراة ، وتقدير صلة { ما } : واذكروا ما استقر فيه ، و { لعلكم تتقون } ترج في حق البشر .


[729]:- يقال: تقضي البازي: انقض- وكسر الطائر يكسر كسورا: ضم جناحيه حتى ينقض، يريد الوقوع. فإذا ذكرت الجناحين قلت: كسر جناحيه كسرا.
[730]:- أي: كون الطور اسما لجبل معين، أو لكل جبل ينبت، أو لكل جبل أنبت أو لم ينبت- على أن اللفظة عربية.
[731]:- بالميم أي: سلكوا فيه هذا المسلك دائما، وفي بعض النسخ: فأقروا بالقاف.
[732]:- في هذا تكلف، والحق أنهم مكرهون على هذا الإيمان، ومضطرون، كما هو ظاهر النص الكريم، وهم وإن كانوا مضطرين فاستحقاقهم للثواب بعد إنما يكون على عملهم، لا على التزامهم، وقد ثبت في شرعنا كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من أسلم بعد أن رأى السيف مصلتا عليه، واعتذر عن قتله بقوله: إنما قالها خوفا، ولم تكن عن قصد صحيح- قال له: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها صدقا أم لا"؟ وقال: "إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس".
[733]:- المقصود من الكتب السماوية هو تدبرها، والعمل بمقتضاها، لا مجرد تلاوتها وتردادها باللسان فإن ذلك إعراض عنها، واطرح لها كما سيأتي هذا المعنى في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين فإن ذلك إعراض عنها، واطرح لها كما سيأتي هذا المعنى في قوله تعالى: (نبذ فريق من الذين أوتو الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون) قال الإمام مالك رحمه الله: "قد يقرأ القرآن من لا خير فيه، فالمراد بالذكر هنا الذكر بالقلب، وهو التدبر أو لازمه وهو العمل، لا مجرد الذكر باللسان".