قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . قال مقاتل والضحاك ( ما كان لبشر ) يعني عيسى عليه السلام ، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى ( ما كان لبشر ) يعني عيسى ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي الإنجيل . وقال ابن عباس وعطاء ( ما كان لبشر ) يعني محمدا ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي القرآن ، وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود ، والرئيس من نصارى أهل نجران قالا : يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال : معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله ، وما بذلك أمرني الله ، وما بذلك بعثني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ما كان لبشر ) أي ما ينبغي لبشر ، كقوله تعالى ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ) أي ما ينبغي لنا ، والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه ، كالقوم والجيش ، ويوضع موضع الواحد والجمع ، ( أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ) .
قوله تعالى : { والحكم } الفهم والعلم ، وقيل إمضاء الحكم عن الله عز وجل .
قوله تعالى : { والنبوة } المنزلة الرفيعة بالأنبياء .
قوله تعالى : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا } أي ولكن يقول كونوا .
قوله تعالى : { ربانيين } اختلفوا فيه ، قال علي وابن عباس والحسن : كونوا فقهاء ، علماء وقال قتادة : حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير : العالم الذي يعمل بعلمه ، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء معلمين . وقيل : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقال عطاء : حكماء وعلماء نصحاء لله في خلقه ، قال أبو عبيدة : سمعت رجلاً عالماً يقول : الرباني العالم بالحلال والحرام ، والأمر ، والنهي ، العارف بأنباء الأمة ، ما كان وما يكون ، وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبار فوق العلماء ، والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصائر بسياسة الناس . قال المؤرخ : كونوا ربانيين تدينون لربكم ، من الربوبية ، كان في الأصل ربي فأدخلت الألف للتفخيم ، ثم أدخلت النون لسكون الألف ، كما قيل : صنعاني وبهراني ، وقال المبرد : هم أرباب العلم ، سموا به لأنهم يربون العلم ، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها ، وكل من قام بإصلاح الشيء وإتمامه فقد ربه يربه ، وأحدها ربان كما قالوا ربان ، وعطشان ، وشبعان ، وغرثان ، ثم ضمت إليه ياء النسبة ، كما يقال : لحياني ورقباني . وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال : هو الذي يربي علمه بعمله ، قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة .
قوله تعالى : { بما كنتم } أي بما أنتم ، كقوله تعالى ( من كان في المهد صبياً ) أي من هو في المهد .
قوله تعالى : { تعلمون الكتاب } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، " تعلمون " ، من التعليم ، وقرأ الآخرون " تعلمون " بالتخفيف من العلم .
هذا النموذج من بني إسرائيل - فيما يبدو من مجموع هذه الآيات - كانوا يتلمسون في كتاب الله الجمل ذات التعبير المجازي ؛ فيلوون السنتهم بها - أي في تأويلها واستخراج مدلولات منها هي لا تدل عليها بغير ليها وتحريفها - ليوهموا الدهماء أن هذه المدلولات المبتدعة هي من كتاب الله ؛ ويقولون بالفعل : هذا ما قاله الله ، وهو ما لم يقله - سبحانه - وكانوا يهدفون من هذا إلى إثبات الوهية عيسى عليه السلام ومع " روح القدس " . . وذلك فيما كانوا يزعمون من الأقانيم : الأب والابن والروح القدس . باعتبارها كائنا واحدا هو الله - تعالى الله عما يصفون - ويروون عن عيسى - عليه السلام - كلمات تؤيد هذا الذي يدعونه ، فرد الله عليهم هذا التحريف وهذا التأويل ، بأنه ليس من شأن نبي يخصه الله بالنبوة ويصطفيه لهذا الأمر العظيم أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها هو والملائكة . فهذا مستحيل :
( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول للناس : كونوا عبادا لي من دون الله . ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون . ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ )
إن النبي يوقن أنه عبد ، وأن الله وحده هو الرب ، الذي يتجه إليه العباد بعبوديتهم وبعبادتهم . فما يمكن أن يدعي لنفسه صفة الألوهية التي تقتضي من الناس العبودية . فلن يقول نبي للناس : ( كونوا عبادا لي من دون الله ) . . ولكن قوله لهم : ( كونوا ربانيين ) . . منتسبين إلى الرب ، عبادا له وعبيدا ، توجهوا إليه وحده بالعبادة ، وخذوا عنه وحده منهج حياتكم ، حتى تخلصوا له وحده فتكونوا( ربانيين ) . . كونوا( ربانيين )بحكم علمكم للكتاب وتدارسكم له . فهذا مقتضى العلم بالكتاب ودراسته .
{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } تكذيب ورد على عبده عيسى عليه السلام . وقيل ( أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا ، فقال : معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بعبادة غير الله ، فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ) فنزلت . وقيل ( قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك . قال لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) { ولكن كونوا ربانيين } ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل . { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له ، فإن فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب تعلمون بمعنى عالمين . وقرئ { تدرسون } من التدريس وتدرسون من أدرس بمعنى درس كأكرم وكرم ، ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير وبما كنتم تدرسونه على الناس .
اعتراض واستطراد : فإنه لما ذكر لَيّ اليهودِ ألسنتَهم بالتوراة ، وهو ضرب من التحريف ، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقَوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام ، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك ، ردّاً على النصارى ، فيكون رجوعاً إلى الغرض الذي في قوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله بأنا مسلمون } [ آل عمران : 64 ] .
وفي « الكشاف » قيل نزلت لأنّ رجلاً قال : يا رسول الله نُسلمُ عليك كما يُسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك . قال : " لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيئكم واعرِفوا الحق لأهله " قلت : أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، فعلى تقدير كونه حديثاً مقبولاً فمناسبة ذكر هذه الآية أنها قص منها الردّ على جميع هذه المعتقدات . ووقع في أسباب النزول للواحدي مِن رواية الكلبي ، عن ابن عباس : أنّ أبا رافع اليهودي والسيدَ مِن نصارى نجران قالا يا محمد : « أتريد أن نعبدك » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " معاذ الله أن يُعبد غير الله " ونزلت هذه الآية .
وقوله : { ما كان لبشر } نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق . وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلاً كذا ، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس ، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف ، فصار التركيب : ما كان له أن يفعل ، ويقال أيضاً : ليس له أن يفعل ، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } [ طه : 118 ] .
فمعنى الآية : ليس قولُ { كونوا عباداً لي } حقاً لبشر أيِّ بشر كان . وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو { وما كان الله ليعذّبهم } [ الأنفال : 33 ] ، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي ، بحيث ينفي أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا ، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً .
والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة ، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي } أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ .
والعباد جمع عبد كالعبيد ، وقال ابن عطية : « الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير ، والعبيد يقصد منه ، ولذلك قال تعالى : « يا عبادي » وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد ، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد ، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم : هم عبيد العَصا ، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى : { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك ، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك آنس بها في قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية » . اهـ .
وقوله : { من دون الله } قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر ، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين ، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم ، وجعلوه ابناً للَّه ، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم : نحن عبد الله وعبيدُ عيسى ، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عباداً له دون الله ، والمعنى أنّ لآمِر بأن يكون الناس عباداً له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله . { ولكن كونوا ربانيين } أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ ، وهو الله تعالى ، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه .
ومعنى ذلك أن يَكونوا مخلصين لله دون غيره .
والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية ، والشَّعراني لكثير الشعرَ .
وقوله : { بما كنتم تعلمون الكتاب } أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة ، فإنّ فائدة العلم العمل .
وقرأ الجمهور : بما كنتم تعلمون بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع عَلِم . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : بضم ففتح فلاممٍ مشدّدة مكسورة مضارع عَلَّم المضاعف .
{ وتدرسون } معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير : لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يُعمل في أمثاله ، فمنه قولهم : دَرَسَت الريحُ رسمَ الدار إذا عفته وأبلته ، فهو دارس ، يقال منزل دارس ، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين . وثوْب دارس خَلَقٌ ، وقالوا : دَرَس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه ، أو للتدبّر ، وفي الحديث : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة إلخ " رواه الترمذي فعطَفَ التدارس على القراءة فعُلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة . وسموا بيت قراءة اليهود مِدْرَاساً كما في الحديث : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ . ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازاً في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية { وبما كنتم تدرسون } على { بما كنتم تعلمون الكتاب } .
وفعله من باب نصر ، ومصدره في غالب معانيه الدرس ، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل دَرْساً ومنه سمي تعليم العِلم درساً .
ويجيء على وزن الفِعالة دِراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل ، مثل الكتابة والقراءة ، إلحاقاً لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة .