قوله تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } ، يعني : مشركي العرب .
قوله تعالى : { ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } . لم يرد به جميع النصارى ، لأنهم في عدواتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين ، وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم مساجدهم ، وإحراق مصاحفهم ، لا ولاء ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم ، مثل النجاشي وأصحابه ، وقيل : نزلت في جميع اليهود ، وجميع النصارى ، لأن اليهود أقسى قلباً ، والنصارى ألين قلباً منهم ، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود . قال أهل التفسير : ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ، ويعذبونهم ، فافتتن من افتتن ، وعصم الله منهم من شاء ، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ، ولم يقدر على منعهم ، ولم يؤمر بعد بالجهاد ، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، قال : ( إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً ) وأراد به النجاشي ، واسمه أصحمة ، وهو بالحبشية عطية ، وإنما النجاشي اسم الملك ، كقولهم قيصر ، وكسرى ، فخرج إليها سراً ، أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، وهم عثمان بن عفان ، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير بن العوام ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد وعبد الرحمن ابن عوف ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم ، فخرجوا إلى البحر ، وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار ، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة الأولى ، ثم خرج جعفر بن أبي طالب ، وتتابع المسلمون إليها ، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء ، والصبيان ، فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي ، وبطارقته ، ليردوهم إليهم ، فعصمه الله ، وذكرت القصة في سورة آل عمران في قوله تعالى : { إن أولى الناس بإبراهيم } إلى آخر الآية ، فلما انصرفا خائبين ، أقام المسلمون هناك بخير دار ، وأحسن جوار ، إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره ، وذلك في سنة ست من الهجرة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ، فمات زوجها ويبعث إليه من عنده من المسلمين ، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأعطتها أوضاحاً لها ، سروراً بذلك ، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار ، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله ، فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة ، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين ديناراً ، فردته وقالت : أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً ، وقالت : أنا صاحبة دهن الملك وثيابه ، وقد صدقت محمداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وحاجتي منك أن تقرئيه مني السلام ، قالت : نعم . قالت أبرهة : وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عندها فلا ينكر ، قالت أم حبيبة : فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، فخرج من خرج إليه ، وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه ، وكان يسألني عن النجاشي ، فقرأت عليه من أبرهة السلام ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام ، وأنزل الله عز وجل : { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودةً } يعني : أبا سفيان ( مودة ) ، يعني : بتزويج أم حبيبة ، ولما جاء أبا سفيان تزوج أم حبيبة قال : ذلك الفحل لا يجدع أنفه ، وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبحر في ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه ، يا رسول الله ، أشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً ، وقد بايعتك ، وبايعت ابن عمك ، وأسلمت لله رب العالمين ، وقد بعثت إليك ابني أزهى ، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت ، والسلام عليك يا رسول الله . فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه ، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً ، عليهم ثياب الصوف ، منهم اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وقالوا : آمنا ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ، يعني : وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السبعون ، وكانوا أصحاب الصوامع ، وقال مقاتل ، والكلبي : كانوا أربعين رجلاً ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام . وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلاً ، أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميون من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم صدقوه ، وآمنوا به ، فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم .
قوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين } ، أي علماء ، قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم .
قوله تعالى : { ورهباناً } ، الرهبان : العباد أصحاب الصوامع ، واحدهم راهب ، مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين .
قوله تعالى : { وأنهم لا يستكبرون } ، لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق .
هذه البقية من الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين ، ومواقفهم من الرسول [ ص ] ومن الأمة المسلمة ؛ هي طرف من الحديث الطويل الذي تضمنته السورة من قبل خلال أكثر من [ ربعين ] فقد تناولت الحديث عن فساد عقيدة اليهود والنصارى معاً ، وسوء طوية اليهود وسوء فعلهم ، سواء مع أنبيائهم من قبل أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصرة المشركين عليه . . كما تناولت الحكم على عقيدة اليهود والنصارى التي انتهوا إليها بأنها " الكفر " لتركهم ما جاء في كتبهم وتكذيبهم بما جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوكيد بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . ثم وجه الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ ما أنزل إليه من ربه إلى الجميع مشركين ويهودا ونصارى ؛ فكلهم ليسوا على شيء من دين الله ؛ وكلهم مخاطب بالإسلام للدخول فيه . كما وجه الحديث إلى الأمة المسلمة لتتولى الله والرسول والذين آمنوا ، ولا تتولى اليهود والنصارى ، فإن بعضهم أولياء بعض ؛ واليهود يتولون الذين كفروا ؛ وقد لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم . . . الخ . . .
فالآن تجيء هذه البقية لتقرير مواقف هذه الطوائف جميعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الأمة المسلمة . ولتقرير الجزاء الذي ينتظر الجميع في الآخرة . .
لقد كانت هذه الأمة تتلقى هذا القرآن لتقرر - وفق توجيهاته وتقريراته - خطتها وحركتها ، ولتتخذ - وفق هذه التوجيهات والتقريرات - مواقفها من الناس جميعاً . فهذا الكتاب كان هو موجهها ومحركها ورائدها ومرشدها . . ومن ثم كانت تَغلب ولا تُغلب ، لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربانية المباشرة ؛ مذ كان نبيها يقودها وفق الإرشادات الربانية العلوية . .
وهذه الإرشادات الربانية ما تزال ؛ والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب الكريم ما تزال . والذين يحملون دعوة الاسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقوا هذه التقريرات وتلك الإرشادات كأنهم يخاطبون بها اللحظة ؛ ليقرروا على ضوئها مواقفهم من شتى طوائف الناس ؛ ومن شتى المذاهب والمعتقدات والآراء ، ومن شتى الأوضاع والأنظمة وشتى القيم والموازين . . اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . }
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطاباً عاما خرج مخرج العموم ، لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا ؛ وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ، ويجده كل من يتأمل !
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا ، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي ! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة ، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا ! ونقول : إن هذا " على الأقل " . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة ، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا !
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام [ ص ] وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل ، والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا ، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .
لقد عقد الرسول [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل ، حتى قال الله فيهم : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام ، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله [ ص ] فلم تعد لليهود فرصة للتسلط !
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية ، وأفادتها من قرون السبي في بابل ، والعبودية في مصر ، والذل في الدولة الرومانية . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة ؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقةلحرب الجماعة المسلمة : ( ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) .
ولما غلبهم الاسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين ، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في انحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الارض ؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة ، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !
وصدق الله العظيم : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم ؛ وبين قريش في مكة ، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق الشائعات ، في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله [ ص ] وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال " الدستور " بها في عهد السلطان عبدالحميد ، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي " البطل " أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود !
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا ، وأعرض مجالا ، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية . . [ التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ] وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية ، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول :
( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) . .
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي ، فإننا ندرك طرفا من حكمة الله في تقديم اليهود الذين أشركوا !
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة ، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام وعلى نبي الإسلام ، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله ! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .
إن هذة الآيات تصور حالة ، وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام - : ( الذين قالوا : إنا نصارى ) . . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة ، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين ، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها ، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة ، وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص :
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس ، قالوا : إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) . . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم . { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر .
اللام في قوله { لتجدن } لام الابتداء ، وقال الزجّاج هي لام قسم ، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال{[4651]} .
وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله ، وهكذا هو الأمر حتى الآن ، وذلك أن اليهود َمَرنوا{[4652]} على تكذيب الأنبياء وقتلهم ، وَدِربوا العتو والمعاصي{[4653]} وَمَردوا{[4654]} على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فهم قد لحجت{[4655]} عداواتهم وكثر حسدهم ، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كَّفر وعروشهم ثَّل{[4656]} ، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة . والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا ، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم{[4657]} ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين ، ويستهينون من فهموا منه الفسق ، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك ، وإذا سالموا فسلمهم صاف ، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق ، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم{[4658]} ، وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس ، وذلك لكونهم أهل كتاب ، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما ُسَّر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار ، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام ، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل{[4659]} إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا . ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين ، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين ، وفي قوله تعالى : { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم ، وقوله تعالى : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } معناه ذلك بأن منهم بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هدى ، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، فلذلك لا يرى فيهم زاهد ، ويقال «قس » بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب ، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا{[4660]} .
وأما الرهبان فجمع راهب . وهذه تسمية عربية والرهب الخوف ، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير :
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا *** والعصم من شغف العقول الفادر{[4661]}
وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل تحدَّر الرهبان يمشي ونزل{[4662]}
قال القاضي أبو محمد : ويروى و «يزل » بالياء من الزلل ، وهذه الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب ، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون ، وهذا بين موجود فيهم حتى الآن ، واليهودي متى وجد غروراً طغى وتكبر ، وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله ، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن ، ولم يزل مؤمناً حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، وذكر السدي : أنهم كانوا اثني عشر : سبعة عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخِّير فالخِّير ، وذكر السدي : أن النجاشي خرج مهاجراً فمات في الطريق .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة ، وقال قتادة : نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد ، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً{[4663]} .
فذلكة لما تقدّم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين ؛ فإنّ الله شنّع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال : { وليزيدَنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } [ المائدة : 64 ] ، فكرّرها مرّتين وقال : { ترى كثيراً منهم يتولّون الذين كفروا } [ المائدة : 80 ] وقال : { وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا وقد دخلوا بالكفر } [ المائدة : 61 ] فعلم تلوّنهم في مضارّة المسلمين وأذاهُم . وذَكر من أحوال النصارى ما شنّع به عقيدتهم ولكنّه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتّخاذ الفريقين أولياء في قوله : { يأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] الآية . فجاء قوله : { لتجدنّ أشدّ الناس عداوة } الآية فذلكة لحاصل ما تكنّه ضمائر الفريقين نحو المسلمين ، ولذلك فُصلت ولم تعطف . واللام في { لتَجدنّ } لام القسم يقصد منها التأكيد ، وزادته نون التوكيد تأكيداً . والوجدان هنا وِجدانٌ قلبي ، وهو من أفعال العِلم ، ولذلك يُعدّى إلى مفعولين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولتجدنّهم أحرصَ الناس على حياة } في سورة البقرة ( 96 ) . وانتصب عداوة } على تمييز نسبة { أشدّ } إلى النّاس ، ومثله انتصاب { مودّة } .
وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين ، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغض الإسلام ؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوءة من غيرهم ، والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحقّ ونبذ الباطل .
وقوله : { ولتجدنّ أقربهم مودّة } أي أقرب النّاس مودّة للذين آمنوا ، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام . وهذان طرفان في معاملة المسلمين . وبين الطرفين فِرق متفاوتة في بغض المسلمين ، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطّلة .
والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة ، لقوله : { أقربهم مودّة للذين آمنوا } . فأمّا من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين .
وقد تقدّم الكلام على نظير قوله : { الذين قالوا إنّا نصارى } في قوله تعالى : { ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم } [ المائدة : 14 ] ، المقصودِ منه إقامة الحجّة عليهم بأنّهم التزموا أن يكونوا أنصاراً لله { قال الحواريّون نحن أنصار اللّهِ } [ الصف : 14 ] ، كما تقدّم في تفسير نظيره . فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودّة المسلمين فيتّبعوا دين الإسلام .
وقوله : { ذلك } الإشارة إلى الكلام المتقدّم ، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا . والباء في قوله : { بأنّ منهم قسّيسين } باء السببية ، وهي تفيد معنى لام التعليل . والضمير في قوله { منهم } راجع إلى النصارى .
والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين . ويقال قَسّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية . وقال قطرب : هي بلغة الروم . وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين .
والرهبان هنا جمع راهب ، مثل رُكْبان جمع راكب ، وفُرسان جمع فارس ، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل .
والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة . وقال الراغب : الرهبان يكون واحداً وجمعاً ، فمَن جعله واحداً جمعَه على رهابين ورَهابنة . وهذا مروي عن الفرّاء . ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفرداً . وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي :
لو أبصَرَتْ رهبانَ دَير بالجَبل *** لانحدر الرّهْبان يَسْعى ويزِل
وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سبباً في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم . وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع ، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم ، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم . قال النابغة :
لو أنَّها برزت لأشمَط راهِب *** عبدَ الإله صَرورة مُتَعَبِّد
لرَنَا لطلعتها وحسن حديثهـا *** ولخَالَه رَشداً وإن لَم يَرْشَد
فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سبباً في صلاح أخلاق أهل ملّتهم . والاستكبار : السين والتاء فيه للمبالغة . وهو يطلق على التكبّر والتعاظم ، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ ، وهما متلازمان . فالمراد من قوله : { لا يستكبرون } أنَّهم متواضعون منصفون . وضمير { وأنّهم لا يستكبرون } يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير { بأنّ منهم } ، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون ، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر . وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق . قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين :
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلهِ ودينُهـــم *** قويم فما يرجُون غيرَ العواقب
ولا يحسبون الخيرَ لا شرّ بعده *** ولا يحسبون الشرّ ضربة لاَزب
وظاهر قوله { الّذين قالوا إنّا نصارى } أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي ، وهم نصارى العرب ، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية ، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم .
وضمير { وأنّهم لا يستكبرون } عائد إلى { قسّيسين ورهباناً } لأنّه أقرب في الذكر ، وهذا تشعر به إعادة قوله { وأنّهم } ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير ، وتَكون ضمائر الجمع من قوله { وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله } [ المائدة : 83 85 ] تابعة لضمير { وأنّهم لا يستكبرون } .
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام . ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى : { وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها } [ الروم : 9 ] . فضمير الرفع في { عمروها } الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني . وكقول عبّاس بن مرداس :
عُدْنَا ولولاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم *** بالمسلمين وأحرزُوا مَا جَمَّعوا
يريد بضمير ( أحرزوا ) جماعة المشركين ، وبضمير ( جمَّعوا ) جماعة المسلمين .
ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما : أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِباً من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا .
وهم : بَحِيرا الراهب ، وإدريس ، وأشرف ، وأبرهة ، وثمامة ، وقثم ، ودريد ، وأيمن ، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه . وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة ، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيراً بفضلهم . وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول . ولَعلّ اللّهَ أعلَم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد في قلوبهم ولم يتمكّنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلاّ شيء قليل تمسّكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمّى بالإسلام ، وهؤلاء يشبه حالهم حالَ من لم تبلغه الدعوة ، لأنّ بلوغ الدعوة متفاوت المراتب . ولعلّ هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن . ولا شكّ أنّ النجاشي ( أصْحَمة ) منهم . وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النّبيء . والمقصود أنّ الأمّة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودّة المسلمين .
والرسول هو محمّد كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن . وما أنزل إليه هو القرآن .