قوله تعالى : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ، وكان اسمهما أصرم وصريم ، { وكان تحته كنز لهما } ، اختلفوا في ذلك الكنز ، اختلفوا في ذلك الكنز : روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان ذهباً وفضه . وقال عكرمة : كان مالاً . وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفاً فيها علم . وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن الموت كيف يفرح ؟ عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل : عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ؟ عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب ؟ عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي الجانب الآخر مكتوب : أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وهذا قول أكثر المفسرين . وروي أيضاً ذلك مرفوعاً . قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعاً لهما . { وكان أبوهما صالحاً } ، قيل : كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما . وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء . قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده ، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي . قوله عز وجل : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثمان عشرة سنة . { ويستخرجا } حينئذ { كنزهما رحمة } نعمة { من ربك } . { وما فعلته عن أمري } أي باختياري ورأيي ، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ، { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي لم تطق عليه صبراً ، واستطاع واسطاع بمعنى واحد . روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به . واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة ، وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته ، فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكراً لله عز وجل ، وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده .
( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر
مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .
ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .
وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ »{[7877]} هذا الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز » : فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً ، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة{[7878]} كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة{[7879]} ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته »{[7880]} ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { وإذا مرضت فهو يشفيني }{[7881]} [ الشعراء : 80 ] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله }{[7882]} [ الصف : 5 ] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[7883]} [ التوبة : 118 ] ، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه{[7884]} هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى . لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد » كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[7885]} ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع » ، وقرأ الجمهور «تسطع » قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع » المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [ الكهف : 58 ] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله .