السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله : { وأما الجدار } أي : الذي أشرت بأخذ الأجر عليه { فكان لغلامين } ودل على كونهما دون البلوغ بقوله : { يتيمين } وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريماً . ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولاً أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة ، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال : { في المدينة } فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال ، { وكان تحته كنز لهما } فلذلك أقمته احتساباً ، واختلف في ذلك الكنز كما قال : { وكان تحته كنز لهما } فلذلك أقمته احتساباً واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كان ذهباً وفضة » رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } [ التوبة ، 34 ] لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق ، وعن سعيد بن جبير قال : كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه ، وعن ابن عباس قال : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا اللّه لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه ، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه ، قال البغوي : وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً . قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما ، وقوله : { وكان أبوهما صالحاً } فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته ، وكان سياحاً واسمه كاسح ، قال ابن عباس : حفظا لصلاح أبيهما وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء ، قال محمد بن المنكدر : إن اللّه تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم ، قال سعيد بن المسيب : إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي ، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ اللّه الغلامين قال : بصلاح أبيهما ، قال : فأبي وجدي خير منه ، قال : قد أنبأنا اللّه أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم { فأراد ربك أن يبلغا } أي : الغلامان { أشدّهما } أي : الحلم وكمال الرأي { ويستخرجا كنزهما } لينتفعا به وينفعا الصالحين .

تنبيه : أسند الإرادة في قوله : { فأردت أن أعيبها } إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب ، وثانياً في قوله : فأردنا إلى اللّه وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد اللّه تعالى بدله ، وثالثاً في قوله : فأراد ربك إلى اللّه وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين ، أو لأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج ، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه ، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى اللّه تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا للّه تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل : اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار ، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به ؟ وأجيب : لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال : { رحمة من ربك } أي : إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة اللّه لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر { وما فعلته } أي : شيئاً من ذلك { عن أمري } أي : عن اجتهادي ورأيي بل بأمر من له الأمر وهو اللّه تعالى .

تنبيه : احتج من ادعى نبوّة الخضر بأمور أحدها قوله تعالى : { آتيناه رحمة من عندنا } والرحمة هي النبوّة ، قال تعالى : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } [ القصص ، 86 ] والمراد من هذه الرحمة النبوة ، قال الرازي : ولقائل أن يقول مسلم : إنّ النبوة رحمة ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة ، الثاني : قوله تعالى : { وعلمناه من لدنا علماً } وهذا يقتضي أن اللّه تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه اللّه تعالى بلا واسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من اللّه تعالى ، قال الرازي : وهذا الاستدلال ضعيف لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من اللّه وذلك لا يدل على النبوّة ، الثالث : أن موسى عليه السلام قال : { هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت } والنبي لا يتبع غير نبي في التعلم ؟ قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير نبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما غير تلك العلوم فلا ، الرابع : أنه أظهر على موسى الترفع حيث قال : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } ، وأما موسى فإنه أظهر له التواضع حيث قال : ولا أعصي لك أمراً ، وهذا يدل على أنه كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق نبي . قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها ، الخامس : قوله : { وما فعلته عن أمري } وفي المعنى : أني فعلته بوحي من اللّه وهذا يدل على النبوة . قال الرازي : وهذا أيضاً ضعيف ظاهر الحجة ، السادس : ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك ، قال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرّفك هذا ؟ قال : الذي بعثك إليّ ، وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ، قال الرازي : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات انتهى . وبالجملة فالجمهور على أنه نبي كما مرّ واختلفوا هل هو حيّ أو ميت ؟ فقيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم ، قال البغوي : وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة ليطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدّمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وشكر اللّه تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق ، وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى : { وما جعلنا البشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء ، 34 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده . ولما بيّن لموسى سر تلك القضايا قال له : { ذلك } أي : هذا التأويل العظيم { تأويل ما لم تسطع } يا موسى { عليه صبراً } وحذف تاء الاستطاعة هنا تخفيفاً فإنّ استطاع واسطاع بمعنى واحد .

تنبيه : من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعمله ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال ، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حين يتحقق إصراره ثم يهاجره ، روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له : أوصني ؟ قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه للعمل به .

ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على { ويجادل الذين كفروا بالباطل } [ الكهف ، 56 ] .