الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { وكان تحته كنز لهما } قال : كان كنز لمن قبلنا وحرم علينا ، وحرمت الغنيمة على ما كان قبلنا وأحلت لنا ، فلا تعجبن للرجل يقول : ما شأن الكنز أحل لمن قبلنا وحرم علينا ؟ فإن الله يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء ، وهي السنن والفرائض . . . تحل لأمة وتحرم على أخرى .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم ، عن خيثمة قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : طوبى لذرية مؤمن ، ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده . وتلا خيثمة { وكان أبوهما صالحاً } .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال : إن الله يصلح بالعبد الصالح القبيل من الناس .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق شيبة ، عن سليمان بن سليم بن سلمة قال : مكتوب في التوراة «إن الله ليحفظ القرن إلى القرن إلى سبعة قرون ، وإن الله يهلك القرن إلى القرن إلى سبعة قرون » .

وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال : إن الرب تبارك وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل : «إني إذا أطعت رضيت ، وإذا رضيت باركت وليس لبركتي ناهية ، وإذا عصيت غضبت ولعنتي تبلغ السابع من الولد » .

وأخرج أحمد عن وهب قال : يقول الله : «اتقوا غضبي فإن غضبي يدرك إلى ثلاثة آباء ، وأحبوا رضاي فإن رضاي يدرك في الأمة » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وما فعلته عن أمري } قال : كان عبداً مأموراً مضى لأمر الله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : قال موسى لفتاه يوشع بن نون { لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين } فاصطادا حوتاً فاتخذاه زاداً وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي أرادها ، فهاجت ريح فاشتبه عليه المكان ونسيا عليه الحوت ، ثم ذهبا فسارا حتى اشتهيا الطعام فقال لفتاه : { آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } يعني جهداً في السير .

قال الفتى لموسى : { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } .

قال : فسمعنا عن ابن عباس أنه حدث عن رجال من علماء أهل الكتاب ، أن موسى دعا ربه فسأله ومعه ماء عذب في سقاء ، فصب من ذلك الماء في البحر وانصب على أثره فصار حجراً أبيض أجوف ، فأخذ فيه حتى انتهى إلى الصخرة التي أراد فصعدها وهو متشوف : هل يرى ذلك الرجل ؟ حتى كاد يسيء الظن ، ثم رآه فقال : السلام عليك يا خضر . قال : عليك السلام يا موسى . قال : من حدثك إني أنا موسى . . . ! ؟ قال : حدثني الذي حدثك أني أنا الخضر . قال : إني أريد أن أصحبك { على أن تعلمني مما علمت رشداً } وأنه تقدم إليه فنصحه فقال : { إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } وذلك بأن أحدهم لو رأى شيئا لم يكن رآه قط ولم يكن شهده ما كان يصبر حتى يسأل ما هذا ، فلما أبى عليه موسى إلا أن يصحبه { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً } إن عجلت عليّ في ثلاث فذلك حين أفارقك .

فهم قيام ينظرون إذ مرت سفينة ذاهبة إلى أبلة ، فناداهم خضر : يا أصحاب السفينة ، هلم إلينا فاحملونا في سفينتكم ، وإن أصحاب السفينة قالوا لصاحبهم : إنا نرى رجالاً في مكان مخوف إنما يكون هؤلاء لصوصاً فلا تحملهم . فقال صاحب السفينة : إني أرى رجالاً على وجوههم النور ، لأحملنهم . فقال الخضر : بكم حملت هؤلاء ؟ كل رجل حملت في سفينتك فلك لكل رجل منا الضعف . فحملهم فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض - وقد أمر صاحب القرية : إن أبصرتم كل سفينة صالحة ليس بها عيب فائتوني بها - وإن الخضر أمر أن يجعل فيها عيباً لكي لا يسخروها فخرقها فنبع فيها الماء ، وإن موسى امتلأ غضباً { قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } وإن موسى عليه السلام شد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر في البحر ، فقال : أردت هلاكهم فتعلّم أنك أول هالك : فجعل موسى كلما ازداد غضباً استقر البحر ، وكلما سكن كان البحر كالدهر ، وإن يوشع بن نون قال لموسى عليه السلام : ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك ؟ وإن الخضر أقبل عليه { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً } وإن موسى أدركه عند ذلك الحلم فقال : { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً } فلما انتهوا إلى القرية قال خضر : ما خلصوا إليكم حتى خشوا الغرق ، وأن الخضر أقبل على صاحب السفينة فقال : إنما أردت الذي هو خير لك ، فحمدوا رأيه في آخر الحديث وأصلحها الله كما كانت .

ثم إنهم خرجوا حتى انتهوا إلى غلام شاب ، عهد إلى الخضر أن أقتله فقتله { قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس } إلى قوله : { قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وإن خضراً أقبل عليه فقال : قد وفيت لك بما جعلت على نفسي { هذا فراق بيني وبينك } { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين } فكان لا يغضب أحداً إلا دعا عليه وعلى أبويه ، فطهر الله أبويه أن يدعو عليهما أحد وأيد لهما مكان الغلام آخر خيراً منه وأبرّ بوالديه { وأقرب رحماً } .

{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما } فسمعنا أن ذلك الكنز كان علماً فورثا ذلك العلم .

وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن عمارة عن أبيه قال : قيل لابن عباس : لم نسمع - يعني موسى - يذكر من حديث فتاه وقد كان معه . فقال ابن عباس : فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر ، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة . وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه . قال ابن كثير الحسن متروك وأبوه غير معروف .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال : بلغني أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه : يا موسى ، تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به . وبلغني أن موسى قال للخضر : ادع لي . فقال الخضر : يسر الله عليك طاعته .

وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال : قال الخضر لموسى حين لقيه : يا موسى ، انزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، والزم بيتك وابك على خطيئتك .

وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر ، عن أبي عبد الله - أظنه الملطي - قال : أراد موسى أن يفارق الخضر ، فقال له موسى : أوصني . قال : كن نفّاعاً ولا تكن ضراراً ، كن بشاشاً ولا تكن غضباناً ، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ، ولا تُعَيِّرُ امرأً بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران .

وأخرج ابن عساكر عن وهب ، أن الخضر قال لموسى : يا موسى ، إن الناس يعذبون في الدنيا على قدر همومهم .

وأخرج العقيلي عن كعب قال : الخضر على منبر بين البحر الأعلى والبحر الأسفل ، وقد أمرت دواب البحر أن تسمع له وتطيع وتعرض عليه الأرواح غدوة وعشية .

وأخرج ابن شاهين عن خصيف قال : أربعة من الأنبياء أحياء : اثنان في السماء عيسى وإدريس . واثنان في الأرض ، الخضر وإلياس . فأما الخضر ، فإنه في البحر . وأما صاحبه فإنه في البر .

وأخرج الخطيب وابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال : بينا أنا أطوف ، إذا أنا برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا مَنْ لا تغلطه المسائل ، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك ، قلت : يا عبد الله ، أعد الكلام .

قال : وسمعته ؟ قلت : نعم . قال : والذي نفس الخضر بيده : - وكان هو الخضر - لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة ، إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر .

وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية ، عن كعب الأحبار قال : إن الخضر بن عاميل ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ الهند - وهو بحر الصين - فقال لأصحابه : يا أصحابي ، أدلوني . فدلوه في البحر أياماً وليالي ثم صعد ، فقالوا له : يا خضر ، ما رأيت ؟ فلقد أكرمك الله وحفظ لك نفسك في لجة هذا البحر . فقال : استقبلني ملك من الملائكة فقال لي : أيها الآدمي الخطاء إلى أين ؟ ومن أين ؟ فقلت : إني أردت أن أنظر عمق هذا البحر . فقال لي : كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه السلام لم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة ، وذلك منذ ثلثمائة سنة .

وأخرج ابن أبي حاتم عن بقية قال : حدثني أبو سعيد قال : سمعت أن آخر كلمة أوصى بها الخضر موسى حين فارقه : إياك أن تعير مسيئاً بإساءته فتبتلى .

وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أسامة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : «ألا أحدثكم عن الخضر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل ، أبصره رجل مكاتب فقال : تصدق عليّ بارك الله فيك . فقال الخضر : آمنت بالله ما شاء الله من أمر يكون ، ما عندي شيء أعطيكه . فقال المسكين : أسألك بوجه الله لما تصدقت علي ، فإني نظرت السماحة في وجهك ووجدت البركة عندك . فقال الخضر : آمنت بالله ، ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني . فقال المسكين : وهل يستقيم هذا ؟ ! قال : نعم . الحق أقول ، لقد سألتني بأمر عظيم : أما أني لا أخيبك بوجه ربي تعالى . فقدّمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم ، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء . فقال له : إنك إنما ابتعتني التماس خير عندي ، فأوصني أعمل بعمل . قال : أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف . قال : ليس يشق عليّ قال : فقم فانقل هذه الحجارة . وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم ، فخرج الرجل لبعض حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة ، فقال : أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه ، ثم عرض للرجل سفرة فقال : إني احتسبتك أميناً فاخلفني في أهلي خلافة حسنة . قال : فأوصني بعمل . قال : إني أكره أن أشق عليك . قال : ليس يشق عليّ قال : فاضرب من اللبن لنبني حتى أقدم عليك ، فمر الرجل لسفره فرجع وقد شيد بناؤه ، فقال : أسألك بوجه الله ، ما سبيلك وما أمرك ؟ فقال : سألتني بوجه الله ووجه الله أوقعني في العبودية ، أنا الخضر الذي سمعت به . . . سألني مسكين صدقة ولم يكن عندي شيء أعطيه ، فسألني بوجه الله فأمكنته من نفسي فباعني . فأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر ، وقف يوم القيامة جلدة ولا لحم له ولا عظم ليتقصع . فقال الرجل : آمنت بالله ! . . . شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم . فقال : لا بأس ، أحسنت وأتقنت . فقال الرجل : بأبي أنت وأمي يا نبي الله ، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله ، أو أخيّرك فأخلي سبيلك . فقال : أحب أن تخلي سبيلي أعبد ربي . فخلّى سبيله فقال الخضر : الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ثم نجاني منها » .

وأخرج البيهقي في الشعب عن الحجاج بن فرافصة ، أن رجلين كانا يتبايعان عند عبد الله بن عمر ، فكان أحدهما يكثر الحلف ، فبينما هو كذلك إذ مرّ عليهما رجل فقام عليهما فقال للذي يكثر الحلف : مه يا عبد الله ، اتق الله ولا تكثر الحلف فإنه لا يزيد في رزقك ولا ينقص من رزقك إن لم تحلف . قال : امض لما يعنيك . قال : ذا مما يعنيني - قالها ثلاث مرات وردّ عليه قوله - فلما أراد أن ينصرف قال : اعلم أن من آية الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك ، ولا يكن في قولك فضل على فضلك . ثم انصرف فقال عبد الله بن عمر : الحقه فاستكتبه هذه الكلمات . فقال : يا عبد الله ، اكتبني هذه الكلمات يرحمك الله . فقال الرجل : ما يقدر الله من أمر يكن فأعادهن عليه حتى حفظهن ثم شهده حتى وضع إحدى رجليه في المسجد ، فما أدري أرض لفظته أو سماء اقتلعته ، قال : كأنهم يرونه الخضر أو إلياس عليه السلام .

وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده بسندٍ واهٍ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الخضر في البحر واليسع في البر ، يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ، ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل » .

وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي رواد قال : إلياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ، ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل .

وأخرج العقيلي والدارقطني في الأفراد وابن عساكر ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم ، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات : بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ، ما شاء الله لا حول ولا قوّة إلا بالله » .

قال ابن عباس : من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات ، أمنه الله من الغرق والحرق والسرق ومن الشياطين والسلطان والحية والعقرب .