{ وأما الجدار } الذي أشرت بأخذ الأجر عليه { فكان لغلامين } {[47180]}ودل على كونهما دون البلوغ بقوله{[47181]} { يتيمين } .
{[47182]}ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة ، وكان التعبير بالقرية{[47183]} أولاً أليق ، لأنها مشتقة من معنى الجمع ، فكان أليق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك ، وكانت المدينة بمعنى الإقامة ، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها ، فينهدم{[47184]} الجدار وهم مقيمون فيأخذون{[47185]} الكنز ، قال : { في المدينة } فلذلك أقمته احتساباً { وكان تحته كنز }{[47186]}أي مال مدخور{[47187]} { لهما } لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه { وكان أبوهما صالحاً } ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير .
ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده ، أسند إليه خاصة فقال : { فأراد ربك } أي{[47188]} المحسن إليك بهذه التربية ، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين { أن يبلغا } {[47189]}أي الغلامان{[47190]} { أشدهما } أي رشدهما {[47191]}وقوتهما{[47192]} { ويستخرجا كنزهما } لينتفعا به وينفعا الصالحين { رحمة } بهما { من ربك } أي{[47193]} الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم اليتيم{[47194]} {[47195]}فكان التعب في إقامة الجدار مجاناً أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار ، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داعٍ إلى العناية بالأبناء ، روي عن الحسن{[47196]} بن علي رضي الله عهنما أنه قال لبعض الخوارج في كلام{[47197]} جرى بينهما : بم{[47198]} حفظ الله كنز الغلامين ؟ قال : بصلاح أبيهما ، قال فأبي وجدي خير منه ، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون . { وما فعلته } أي شيئاً من ذلك { عن أمري } بل عن أمر {[47199]}من له الأمر ، وهو{[47200]} الله .
{[47201]}ولما بان سر تلك القضايا ، قال {[47202]}مقدراً للأمر{[47203]} : { ذلك } {[47204]}أي لشرح العظيم{[47205]} { تأويل ما لم تسطع } يا موسى { عليه صبراً } وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك - بعد كشف الغطاء - في حيز ما يحمل{[47206]} فكان منكره غير صابر أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول{[47207]} الأمر ، وسقط - ولله الحمد - بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان عليه السلام المخرج في{[47208]} الصحيحين{[47209]} من حديث أبي هريرة رضي الله عنه " لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارساً يجاهد{[47210]} في سبيل الله ، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت{[47211]} بشق آدمي أنه{[47212]} لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا فرساناً أجمعون " فأفهم ذلك أن ذلك كل نبي استثنى في خبره صدقه الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال :{ ستجدني إن شاء الله من الصابرين{[47213]} }[ الصافات : 102 ] فوفى ، فما لموسى عليه السلام - وهو من أولي العزم - فعل مع{[47214]} الاستثناء ما فعل ؟ فإن{[47215]} الذبيح صبر على ما هو قاطع بأنه بعينه أمر الله ، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان ينكر ما ظاهره منكر قبل العلم بأنه من أمر الله ، فإذا نبه صبر ، وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " يرحم الله أخي موسى ! وددنا {[47216]}لو أنه{[47217]} صبر حتى{[47218]} يقص علينا من أمرهما{[47219]} " فمعناه : صبر عن الإذن للخضر عليه السلام في مفارقته في قوله { فلا تصاحبني } ويدل عليه أن في رواية لمسلم " رحمة الله علينا وعلى موسى ! لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه{[47220]} ذمامة " قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } . فتحرر أنه وفى بمقام الشرع الذي أقامه الله فيه{[47221]} فلم يخل بمقام الصبر الذي ليس{[47222]} فيه ما يخالف ما يعرف ويستحضر من الشرع ، وكيف لا وهو من أكابر أولي العزم الذين قال الله تعالى لأشرف خلقه{[47223]} في التسليك بسيرهم{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل{[47224]} }[ الأحقاف : 35 ] وقال تعالى :{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده{[47225]} }[ الأنعام : 90 ] وقال عليه السلام فيما خرجه الشيخان{[47226]} عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي من بعض من كان معه في حنين فتلوّن وجهه وقال : " يرحم الله أخي موسى ! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " وعلم أن في قصته هذه حثاً كثيراً على المجاهرة بالمبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصابرة عليه ، وأن لا يراعى فيه {[47227]}كبير ولا صغير {[47228]}إذا كان الإمرء على ثقة من أمره في الظاهر بما عنده في ذلك من العلم عن الله ورسوله وأئمة دينه{[47229]} ، وتنبيهاً على أنه لا يلزم من العلم اللدني - سواء كان صاحبه نبياً أو ولياً - معرفة كل شيء كما يدعيه أتباع بعض الصوفية ، لأن الخضر سأل موسى عليهما السلام : من أنت ؟ وهل هو موسى نبي{[47230]} بني إسرائيل - كما سيأتي . {[47231]}روى البخاري في التفسير{[47232]} من روايات مختلفة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب رضي الله عنه حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " موسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الناس يوماً{[47233]} حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولّى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله ! هل في الأرض أحد{[47234]} أعلم منك ؟ قال{[47235]} : لا ! فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، {[47236]}فأوحى إليه : بلى{[47237]} ! عبد من عبادي بمجمع البحرين ، قال : أي رب ! كيف السبيل إليه ؟ قال{[47238]} : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث ما فقدته فاتبعه - وفي رواية : خذ نوناً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح - فخرج ومعه فتاه يوشع بن نون حتى{[47239]} انتهيا إلى الصخرة ، فوضع موسى رأسه {[47240]}فنام في ظل الصخرة{[47241]} في مكان ثريان{[47242]} إذ تضرب الحوت - وفي رواية : و{[47243]}في أصل تلك الصخرة عين يقال لها{[47244]} الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيى ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فانسل من المكتل فدخل البحر - فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر ، فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، فذكر سفرهما و{[47245]}قول موسى عليه السلام { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } قال : قد قطع الله عنك النصب ، فرجعا فوجدا خضراً على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى{[47246]} بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف{[47247]} عن وجهه وقال : هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى ! قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ! قال : فما شأنك ؟ قال : جئت لتعلمني ، قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك{[47248]} وأن الوحي يأتيك{[47249]} ؟ يا موسى ! إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه - أي لا ينبغي لك أن تعمل بالباطن ولا ينبغي لي أنا{[47250]} أن أقف مع{[47251]} الظاهر ، أطلق العلم على العمل لأنه سببه - فانطلقا يمشيان على الساحل ، فوجد ا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل{[47252]} هذا الساحل الآخر ، فعرف الخضر فقالوا : عبد الله الصالح ! لا تحمله بأجر ، فحملوهم في سفينتهم بغير نول{[47253]} : يقول : بغير أجر - فركبا السفينة ، ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر ؛ {[47254]}وفي رواية{[47255]} : فأخذ بمنقاره{[47256]} من البحر ، وفي رواية : فنقر نقرة أو نقرتين فقال : والله ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا من البحر ، فلم يفجأ{[47257]} موسى إلا الخضر عمد{[47258]} إلى قدوم فخرق السفينة ووتد فيها وتداً فذكر{[47259]} إنكاره وجوابه ثم قال : وكانت الأولى من موسى نسياناً ، والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً - فذكر القصة ، وقال في آخرها : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما " .