قوله تعالى :{ فلما بلغ معه السعي } قال ابن عباس وقتادة : يعني المشي معه إلى الجبل . وقال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم ، والمعنى : بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله . قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى ، وهو قول الحسن و مقاتل بن حيان و ابن زيد ، قالوا : هو العبادة لله تعالى . واختلفوا في سنه ، قيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : كان ابن سبع سنين . قوله تعالى : { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومن التابعين وأتباعهم : كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي ، وهي رواية عكرمة و سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قالوا : وكانت هذه القصة بالشام . وروي عن سعيد بن جبير قال : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال . وقال آخرون : هو إسماعيل ، وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وهو قول سعيد بن المسيب ، و الشعبي ، والحسن البصري ، ومجاهد ، و الربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس ، قال : المفدي إسماعيل . وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله : { فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي } أمر بذبح من بشر به ، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق ، كما قال في سورة هود : { فبشرناها بإسحاق }ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال : { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } دل على أن المذبوح غيره ، وأيضاً قال الله تعالى في سورة هود : { فبشرناها بإسحاق }ومن وراء إسحاق يعقوب ، فكما بشر بإسحاق بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه . قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان أمر الله تعالى بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق بن إبراهيم . ومن الدليل عليه : أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج . قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة . وعن ابن عباس قال : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، قد وحش ، يعني يبس . قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء من الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا اصميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه . وأما قصة الذبح قال السدي : لما دعا إبراهيم فقال : رب هب لي من الصالحين ، وبشر به ، قال : هو إذاً لله ذبيح ، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له : أوف بنذرك ، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه ، فقال عند ذلك ، لإسحاق : انطلق نقرب قرباناً لله تعالى فأخذ سكيناً وحبلاً وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال ، فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ فقال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . { فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } . وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة قربه ، وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في نفسه أي : فكر من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحكم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانياً ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل ، فمن ثم سمي يوم عرفة . قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات ، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه ، فقال : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } . قرأ حمزة و الكسائي : ترى بضم التاء وكسر الراء ماذا تشير ؟ وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى ، وعزيمته على طاعته . وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء . قال له ابنه : { يا أبت افعل ما تؤمر } وقال ابن إسحاق وغيره : فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب ، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر . { قال : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين }
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .
( فلما بلغ معه السعي . قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فانظر ماذا ترى . قال : يا أبت افعل ما تؤمر : ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه . فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم . وها هو ذا ما يكاد يأنس به ، وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ، ويرافقه في الحياة . . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . فماذا ? إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً ، ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . . هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . . لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ? !
ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب . . كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب :
( قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ) . .
فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، والواثق بأنه يؤدي واجبه . وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا . ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً ، لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .
فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه :
( قال : يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .
( يا أبت ) . . في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
( افعل ما تؤمر ) . . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :
( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة . ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . . إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به : ( ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .
يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
{ فلما بلغ معه السعي } أي فلما جد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و { معه } متعلق بمحذوف دل عليه { السعي } لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لما قال : { فلما بلغ السعي } فقيل مع من فقيل { معه } ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة . { قال يا بني } وقرأ حفص بفتح الياء . { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام " أنا ابن الذبيحين " . فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ، فالصحيح أنه قال : فقال " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " والزوائد من الراوي . وما روي أن يعقوب كتب إلى يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما . { فانظر ماذا ترى } من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة والكسائي " ماذا ترى " بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحها وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها . { قال يا أبت } وقرأ ابن عامر بفتح التاء . { افعل ما تؤمر } أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا . { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء .
قال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وَحْيٌ، لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه: {يَاأَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُومَرُ} ومعرفته أن رؤياه أَمْرٌ أُمِرَ به (الأم: 5/127.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ" يقول: فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ، وهو السعي، وذلك حين أطاق معونته على عمله.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: معنى ذلك: فلما مشى مع إبراهيم...
وقوله: "قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ "يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه: يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ... عن قتادة، قوله: "يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ" قال: رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه...
قوله: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى": اختلفت القرّاء في قراءة قوله: "ماذَا تَرَى"؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة، وبعض قرّاء أهل الكوفة: "فانْظُرْ ماذَا تَرَى"؟ بفتح التاء، بمعنى: أيّ شيء تأمر، أو فانظر ما الذي تأمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "ماذَا تُرَى" بضم التاء، بمعنى: ماذا تُشير، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح؟.
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ماذَا تَرَى بفتح التاء، بمعنى: ماذا ترى من الرأي.
فإن قال قائل: أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله، والانتهاء إلى طاعته؟ قيل: لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم؛ هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه، فيسرّ بذلك أم لا، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله.
وقوله: "قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ" يقول تعالى ذكره: قال لأبيه: يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي "سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ" يقول: ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا، وقال: افعل ما تؤمر، ولم يقل: ما تؤمر به، لأن المعنى: افعل الأمر الذي تؤمره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ستجدني إن شاء الله من الصابرين" ممن يصبر على الشدائد في حب الله ويسلم أمره إليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد، رأى إبراهيم -عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية، وسميت كذلك لأنه كان يُروّي في ذلك طولَ يومه، هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق، فسمي يوم عرفة.
{يَآ بُنَي إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟} فقال إسماعيل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}: أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه، وإن كان له تأويل فتثبت، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ ولكن لا يمكنك تلافيه، ويقال بل قال: أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر، واحملْ الأمر عَلَى الوجوب، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ. ويقال قال له: إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل الله فأنا يطيب قلبي أن يذبحني أبي لأجل الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما بلغ السعي أي الحدّ الذي يقدر فيه على السعي قيل: مع من؟ فقال مع أبيه، والمعنى في اختصاص الأب أنه أرفق الناس به وأعطفهم عليه، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله؛ لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده... والمراد: أنه على غضاضة سنة وتقلبه في حدّ الطفولة، كان فيه من رصانة الحلم وفسحة الصدر ما جسره على احتمال تلك البلية العظيمة والإجابة بذلك الجواب الحكيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي إبراهيم عليه السلام: {يا بني} منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب.
{أني أذبحك} أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال.
{فانظر} بعين بصيرتك {ماذا} أي ما الذي {ترى} أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له.
{قال} تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: {يا أبت} تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوقير.
{افعل ما تؤمر} أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى.
{ستجدني} أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: {إن شاء الله} أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال، وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله:
{من الصابرين} أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل، جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم، بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم.. (فلما بلغ معه السعي. قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى. قال: يا أبت افعل ما تؤمر: ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. يالله! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم. هذا إبراهيم الشيخ المقطوع من الأهل والقرابة المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة.. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.. نعم إنها إشارة مجرد إشارة وليست وحياً صريحاً، ولا أمراً مباشراً، ولكنها إشارة من ربه.. وهذا يكفي.. هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه.. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: (قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى).. فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، والواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه! والأمر شاق -ما في ذلك شك- فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه.. وهو -مع هذا- يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: (قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين.. (يا أبت).. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته (افعل ما تؤمر)... هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. ولم يأخذها بطولة ولم يأخذها شجاعة ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً.. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: (ستجدني -إن شاء الله- من الصابرين).. يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان ويالنبل الطاعة ويالعظمة التسليم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في {فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ.
وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء، وليس المقصود به التشريع، طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله.
هنا لم يتعرض السياق لحمل السيدة هاجر ولا ولادتها لإسماعيل، إنما انتقل مباشرة من البشارة به إلى مرحلة بلوغه السَّعْيَ مع أبيه، فقال سبحانه بعدها: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} ذلك لأن الحق سبحانه هو الذي يتكلَّم، وهو الذي يحكي.
ومن البلاغة أنْ نترك ما يُعلم من السياق، وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني، ففي قصة سيدنا سليمان -عليه السلام- والهدهد، قال تعالى:
{اذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]، ثم يختصر السياق كثيراً من الأحداث، ويقول:
{قَالَتْ يٰأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] ولم يتعرض لرحلة الهدهد، ولا لكيفية توصيل الخطاب إلى الملكة.
كذلك هنا: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} فبلوغه السَّعْي دلَّ على أن البشارة تحققتْ، ووُلِد الغلام، وبلغ مع أبيه السعي، وفَرْق بين (بلغ السعي) عموماً، وبلغ مع أبيه السعي؛ لأن الغلام لا يُكلَّف بالعمل إلا على قَدْر طاقته في الحركة، وعلى قَدْر عافيته وتحمُّله، وإسماعيل في هذا الوقت بلغ السعي مع أبيه فحسب؛ لأنه لن يُكلِّفه أبوه الحنون إلا بما يقدر عليه من المصالح، والأمور الحياتية، فيفعل الغلامُ ما يقدر عليه، ويترك ما لا يقدر عليه لأبيه، ولو كان مع شخص آخر فربما كلَّفه بما لا يستطيع.
فلما بلغ الغلامُ هذا المبلغَ {قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} والمعنى: أرى في المنام انه مطلوب مني أنْ أذبحَكَ، لا أنَّ الذبح تَمَّ في المنام، وانتهت المسألة بدليل رَدِّ إسماعيل {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وتأمَّلَ هنا الحلم على حقيقته، وعظمة الرد في هذا الامتحان الصعب {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ} ولم يقُلْ: افعل ما تريد؛ لأن طاعته لأبيه هنا من باطن طاعته لله تعالى وامتثاله لأمر ربه، فهو يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله، وإنْ جاء هذا الأمر في شكل رؤيا. إذن: هو يعلم رغم صِغَره أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ حَقٌّ.
وسيدنا إبراهيم ينادي ولده {يٰبُنَيَّ} هكذا بالتصغير، لأن بُني تصغير ابن فلم يقل يا ابني، فقد أوثقه الحنان الأبوي، وعرض عليه هذا الابتلاء، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه، لأنه ما يزال صغيراً، ومعلوم أن حنان الوالد يكون على قَدْر حاجة الولد؛ لذلك المرأة العربية لما سُئِلَتْ: أيّ بنيك أحبُّ إليكِ؟ فقالت: المريض حتى يشفى، والغائب حتى يعود، والصغير حتى يكبر.
فقوله: {يٰبُنَيَّ} يعني: أنا لا أعاملك معاملةَ النِّدِّ، بل معاملة الصغير المحتاج إلى الحنان الأبوي، فخذ أوامري مصحوبة بهذه العاطفة الأبوية القلبية.
وقوله: {فَانظُرْ} يعني: فكِّر، وتدبَّر {مَاذَا تَرَىٰ} أي: في هذه الرؤيا، فكأن الصغير في هذه المسألة مطلوب منه أمران: برك بأبيك، وبرُّك بربِّ أبيك {قَالَ يٰأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ}، فقوله {افْعَلْ} برّ بأبيه. وقوله {مَا تُؤمَرُ} برٌّ بربِّ أبيه.
ثم يؤكد سيدنا إسماعيل رغم صغَره فهمه لهذه القضية، وإدراكه لهذا الابتلاء، فيقول: {سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي: على هذا البلاء
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في أمور الحياة.
امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي، فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!