قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } ، قرأ ابن عامر { بالغداة } بضم الغين ، وسكون الدال ، وواو بعدها ، هاهنا وفي سورة الكهف . وقرأ الآخرون بفتح الغين والدال ، وألف بعدها . قال سلمان وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، وذويهم من المؤلفة قلوبهم ، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، في ناس من ضعفاء المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه ، فقالوا : يا رسول الله ، لو جلست في صدر المجلس ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ، وكان عليهم جباب صوف لها رائحة لم يكن عليهم غيرها ، لجالسناك ، وأخذنا عنك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم : ( ما أنا بطارد المؤمنين ) قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال : " نعم " ، قالوا : اكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، قال : فدعا بالصحيفة ، ودعا علياً ليكتب ، قالوا : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } ، إلى قوله : { بالشاكرين } فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتينا وهو يقول : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) ، فكنا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله عز وجل : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) [ الكهف : 28 ] ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته ، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وقال : " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات " . وقال الكلبي : قالوا له : اجعل لنا يوماً ولهم يوماً ، فقال : لا أفعل ، فقالوا : فاجعل المجلس واحداً ، فأقبل علينا وول ظهرك عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } . قال مجاهد قالت قريش : لولا بلال ، وابن أم عبد ، لبايعنا محمداً ، فأنزل الله هذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } ، يعني : صلاة الصبح وصلاة العصر . ويروي عنه : أن المراد منه الصلوات الخمس ، وذلك أن أناساً من الفقراء كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال ناس من الأشراف : إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص ، فقال سعيد : ما أسرع الناس إلى هذا المجلس ، قال مجاهد : فقلت يتأولون قوله تعالى { يدعون ربهم بالغداة والعشي } ، قال : أفي هذا هو ؟ إنما ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن ، وقال إبراهيم النخعي : يعني يذكرون ربهم ، وقيل المراد منه : حقيقة الدعاء .
قوله تعالى : { يريدون وجهه } أي : يريدون الله بطاعتهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يطلبون ثواب الله فقال : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } ، أي : لا تكلف أمرهم ، ولا يتكلفون أمرك ، وقيل : ليس رزقهم عليك فتملهم .
قوله تعالى : { فتطردهم } ، ولا رزقك عليهم ، قوله : { فتطردهم } ، جواب لقوله { ما عليك من حسابهم من شيء } .
قوله تعالى : { فتكون من الظالمين } ، جواب لقوله : { ولا تطرد } أحدهما جواب النفي ، والآخر جواب النهي .
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله ؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء ؛ يريدون وجهه سبحانه ! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه . . وهي صورة للتجرد ، والحب ، والأدب . . فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء . وهو لا يبغي وجه الله ، إلا إذا تجرد . وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب . وهو لا يفرد الله - سبحانه - بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب ، وصار ربانيا يعيش لله وبالله . .
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من " أشراف " العرب ، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام ؛ لأن محمدا [ ص ] يؤوي إليه الفقراء الضعاف ، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود . . ومن إليهم . . وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم ؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد ! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله [ ص ] أن يطردهم عنه . . فأبى . . فاقترحوا أن يخصص لهم مجلسا ويخصص للأشراف مجلسا آخر ، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف ، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي ! فهم [ ص ] رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه . فجاءه أمر ربه :
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
روى مسلم عن سعد بن أبى وقاص ، قال : كنا مع النبي [ ص ] ستة نفر . فقال المشركون للنبي [ ص ] : اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا ! قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ، ورجلان لست أسميهما . . فوقع في نفس رسول الله [ ص ] ما شاء الله أن يقع . فحدث نفسه . فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . .
ولقد تقول أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف ، الذين يخصهم رسول الله [ ص ] بمجلسه وبعنايته ؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله [ ص ] من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام . . فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل ؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضا :
( ما عليك من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فتطردهم فتكون من الظالمين )
فإن حسابهم على أنفسهم ، وحسابك على نفسك . وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله ، لا شأن لك به . كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به . ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه . فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله ، ولا تقوم بقيمة . . فكنت من الظالمين . . وحاشا لرسول الله [ ص ] أن يكون من الظالمين !
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله [ ص ] وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم ؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه . واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله . .
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون : كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء ؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقونا إليه ؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم ! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمن الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه !
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش . روي أنهم قالوا : لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمون كعمار وصهيب وخباب وسلمان -جلسنا إليك وحادثناك فقال : " ما أنا بطارد المؤمنين " ، قالوا : فأقمهم عنا إذا جئناك قال " نعم " .
وروي أن عمر رضي الله عنه قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه ليكتب فنزلت . والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، وقيل صلاتا الصبح والعصر . وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف . { يريدون وجهه } حال من يدعون ، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر . ورتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم . { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند الله أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا ، أو ليس عليك اعتبار بواطهنم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم . وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم . وقيل الضمير للمشركين والمعنى : لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه . { فتطردهم } فتبعدهم وهو جواب النفي { فتكون من الظالمين } جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر .