محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (52)

[ 52 ] { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ( 52 ) } .

روى الإمام مسلم{[3454]} عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال له المشركون : اطرد هؤلاء يجترئون علينا  ! قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله تعالى : { ولا تطرد الذين . . . } الآية " .

وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في ( صحيحيهما ) .

وروى الإمام أحمد{[3455]} عن ابن مسعود قال : " مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا : يا محمد  ! أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل عليه القرآن : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } إلى قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } " .

ورواه بن جرير{[3456]} عن ابن مسعود أيضا قال : " مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين .

/ وفيه : فقالوا : يا محمد  ! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم ، فلعلك إن طردتهم نتبعك  ! فنزلت هذه الآية : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . . } الآية " .

ووراء ما ذكرنا ، روايات لا تصح ولا يوثق بها .

إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل ، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك ، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان ، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم .

فما أورده الرازي من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم ، ثم أخذ بتكليف في الجواب عنه ، لمنافاته العصمة على زعمه ، فبناء على واه . والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته ، وإلا فالباطل يكفي في رده ، كونه باطلا . وقد أوضحت ذلك في كتابي ( قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ) . والمعنى : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك . كقوله{[3457]} : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .

وقوله تعالى : { يدعون ربهم } أي يعبدونه ويسألونه ، { بالغداة والعشي } قال سعيد بن المسيب وغيره : المراد به الصلاة المكتوبة .

وقوله تعالى : { يريدون وجهه } المراد بالوجه الذات ، كما في قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها ، والجملة حال من { يدعون } ربهم مخلصين له فيه ، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي ، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام ، المضاد للطرد .

وقوله تعالى : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } / كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا{[3458]} : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون } أي : إنما حسابهم على الله عز وجل ، وليس علي من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء .

قال العلامة أبو السعود : الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه ، تقريرا له ودفعا لما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم ، كدأب قوم نوح حيث قالوا : { ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } أي : ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة ، حتى تتصدى له ، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام ، وإنما وظيفتك ، حسبما هو شأن منصب النبوة ، اعتبار ظواهر الأعمال ، وإجراء الأحكام على موجبها . وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور ، كقوله تعالى : { إن حسابهم إلا على ربي } وذكر قوله تعالى : { وما من حسابك عليهم من شيء } مع أن الجواب قد تم بما قبله ، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم ، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا ، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام ، عليهم ، على طريقة قوله تعالى : { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }{[3459]} وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة / واحدة ، لتأدية معنى واحد ، على نهج قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل . انتهى .

والقول المذكور للزمخشري ، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة ، تؤدي مؤدى { ولا تزر } الآية ، وأنه لابد منهما .

هذا ، وقيل : الضمير للمشركين ، والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ، ولا أنت بحسابهم ، حتى يهمك إيمانهم ، ويجرك الحرص عليه على أن تطرد المؤمنين .

وأغرب المهايمي حيث قال : والعماة ، لكونهم أرباب شرف ومال ، يكرهون مجالستهم ، لقلة شرفهم ومالهم ، فقال عز وجل لأشرف الناس : { ما عليك من حسابهم من شيء } أي : ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال من شيء { وما من حسابك عليهم من شيء } أي : وما يعود عليهم من كمالك في الشرف والمال عليهم من شيء ، فإذا لم يلحقك نقصهم ، ولم يأخذوا كمالك في الشرف والمال عليهم من شيء ، فإذا لم يلحقك نقصهم ، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك ، فلا وجه لطردهم . انتهى .

وفيه بعد ، لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة . ولا يخفى مراعاة النظائر .

وفي ( العناية ) : قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين ، تشريفا له . وإلا كان الظاهر ( وما عليهم من حسابك من شيء ) بتقديم ( على ) ومجرورها ، كما في الأول . وفي النظم رد العجز على الصدر ، كما في قوله : عادات السادات ، سادات والعادات .

وقوله تعالى : { فتطردهم فتكون من الظالمين } الظلم : وضع الشيء في غير محله ، أي : فلا تهم بطردهم عنك ، فتضع الشيء في غير موضعه .


[3454]:- أخرجه مسلم في: 44- كتاب فضائل الصحابة، حديث 45 و46 (طبعتنا).
[3455]:- أخرجه في المسند بالصفحة 420 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 3985 (طبعتنا).
[3456]:- الأثر رقم 13255 من التفسير.
[3457]:- [48/ الكهف/ 28].
[3458]:- [26/ الشعراء/ 111- 113] وهاكم نصها حسب الكتاب: {قالوا انؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون (113)}.
[3459]:- [7/ الأعراف/ 34] ونصها: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)}. و[10/ يونس/ 49] ونصها:{قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49)}.