إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (52)

{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } لما أُمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نُهِيَ صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم . رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم ، يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم ، جلسنا إليك وحادثناك . فقال صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بطارد المؤمنين » فقالوا : فأقِمْهم عنا إذا جئنا ، فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت ، قال صلى الله عليه وسلم : «نعم » طمعاً في إيمانهم . ورُوي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام : «لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون ؟ » وقيل : إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بنَ عديّ والحارثَ بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا : يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد مواليَنا وحلفاءنا وهم عبيدُنا وعتقاؤُنا كان أعظمَ في صدورنا ، وأدنى لاتّباعنا إياه ، فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه ، فقال عمر رضي الله عنه : لو فعلتَ ذلك حتى تنظرَ ما الذي يريدون ، وإلامَ يصيرون ؟ وقال سلمان وخباب : فينا نزلت هذه الآية ، جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميمي وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباسُ بنُ مِرْداسٍ وذووهم من المؤلفة قلوبُهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين ، فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقَروهم فأتَوْه عليه الصلاة والسلام فقالوا : يا رسول الله لو جلستَ في صدر المسجد ، ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بطارد المؤمنين » قالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم : «نعم » قالوا : فاكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليّ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريلُ عليه السلام بالآية ، فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده ، وكنا ندنو منه حتى تمَسَّ رُكَبُنا رُكبتَه ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف ، الآية 28 ] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال : «الحمد لله الذي لم يُمتْني حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات » والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل : صلاةُ الفجر والعصر وقرئ ( بالغُدوة ) وقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } حال من ضمير ( يدعون ) أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه ، وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي ، فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد ، وقوله تعالى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم من شيء } اعتراضٌ وسطٌ بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم ، كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا : { مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرأي } [ هود ، الآية 28 ] أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدَّى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام ، وإنما وظيفتُك ، حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة ، اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها ، وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي } [ الشعراء ، الآية 113 ] وذكرُ قوله تعالى : { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ من شيء } مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغة في بيان انتفاءِ كون حسابِهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سِلْك ما لا شُبهة فيه أصلاً ، وهو انتفاءُ كونِ حسابه عليه السلام عليهم على طريقة قولِه تعالى : { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف ، الآية 34 ] وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر ، الآية 18 ] فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل ، وتقديم ( عليك ) في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصدّيه عليه الصلاة والسلام لحسابهم ، وقيل : الضمير للمشركين ، والمعنى : أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين ، وقوله تعالى : { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي وقوله تعالى : { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على ( فتطردَهم ) على طريقة التسبيب وليس بذاك .