السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَا تَطۡرُدِ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ مَا عَلَيۡكَ مِنۡ حِسَابِهِم مِّن شَيۡءٖ وَمَا مِنۡ حِسَابِكَ عَلَيۡهِم مِّن شَيۡءٖ فَتَطۡرُدَهُمۡ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (52)

{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ } بعدما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش .

روي أنّ رؤساءهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون الفقراء المسلمين وهم : عمار وصهيب وخباب وسلمان وأضرابهم وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك فقال عليه الصلاة والسلام : ( ما أنا بطارد المؤمنين ) فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت قال : ( نعم طمعاً في إيمانهم ) .

وروي أنّ عمر رضي الله عنه قال له : لو فعلت حتى تنظر إلى ماذا يصيرون قالوا : فاكتب بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي رضي الله تعالى عنه فنزلت فرمى بالصحيفة واعتذر عمر رضي الله تعالى عنه من مقالته قال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته فكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } ( الكهف ، 28 ) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال لنا : ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي معكم المحيا ومعكم الممات ) وقال الكلبي : قالوا له اجعل لنا يوماً ولهم يوماً قال : «لا أفعل » قالوا : فاجعل واحداً وأقبل علينا وولهم ظهرك فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال مجاهد : قالت قريش : لولا بلال وابن أم معبد لبايعنا محمداً فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } يعني صلاة الصبح وصلاة العصر ) .

ويروى عنه أنّ المراد منه الصلوات الخمس وذلك أنّ ناساً من الفقراء كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال ناس من الأشراف : إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا فنزلت هذه الآية وقوله تعالى : { يريدون وجهه } حال من ( يدعون ) أي : يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيهاً على أنه ملاك الأمر { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء } أي : ليس عليك حساب في اختبار بواطنهم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك كما أنّ حسابك لا يتعدّاك إليهم كقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( الأنعام ، 164 ) .

فإن قيل : هلا اكتفى بقوله : { ما عليك من حسابهم من شيء } عن { وما من حسابك عليهم من شيء } ؟ أجيب : بأن الجملتين جعلتا بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدّى واحد وهو المعنى في قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( الأنعام ، 164 ) ولا يفيد هذا المعنى إلا الجملتان جميعاً .

كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه ، وقيل : الضمير للمشركين والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعاً فيه وقوله تعالى : { فتطردهم } أي : فتبعدهم جواب النفي وقوله تعالى : { فتكون من الظالمين } جواب النهي وهو ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة ) ، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية فقالوا : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما همّ بطرد الفقراء عن مجلسه لأجل أشراف قريش عاتبه الله تعالى به على ذلك ونهاه عن طردهم وذلك قدح في العصمة وقوله تعالى : { فتطردهم فتكون من الظالمين } وأجيب : بأنه صلى الله عليه وسلم ما طردهم ولا همّ به لأجل استخفاف بهم وإنما كان هذا الهم لمصلحة وهي التلطف بهؤلاء الأشراف في إدخالهم في الإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى وهو اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فأعلمه الله تعالى أنّ تقريب هؤلاء الفقراء أولى من الهمّ بطردهم فقرّبهم منه وأدناهم والظلم في اللغة وضع الشيء في غير محله أي : فلا تهم بطردهم عنك فتضع الشيء في غير معوضه فهو من باب ترك الأفضل والأولى لا من باب ترك الواجبات .