{ ويل لكل همزة لمزة } قال ابن عباس : هم المشاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب ، ومعناهما واحد ، وهو العياب . وقال مقاتل : الهمزة : الذي يعيبك في الغيب ، واللمزة : الذي يعيبك في الوجه . وقال أبو العالية والحسن بضده . وقال سعيد بن جبير ، وقتادة : الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم ، واللمزة : الطعان عليهم . وقال ابن زيد : الهمزة : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم . وقال سفيان الثوري : ويهمز بلسانه ويلمز بعينه . ومثله قال ابن كيسان : الهمزة : الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ واللمزة : الذي يومض بعينه ، ويشير برأسه ، ويرمز بحاجبه ، وهما نعتان للفاعل ، نحو سخرة وضحكة : للذي يسخر ويضحك من الناس ، وأصل الهمز : الكسر والعض على الشيء بالعنف . واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ؟ قال الكلبي : نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم . وقال محمد بن إسحاق : ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي . وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ، ويطعن عليه في وجهه . وقال مجاهد : هي عامة في حق كل من هذه صفته .
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب !
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ؛ لا يعجز عن فعل شيء ! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء !
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده ؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة !
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود ! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة " المنبوذ " المهمل المتردي في( الحطمة )التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي( نار الله الموقدة )وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة .
وهي( تطلع )على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد ! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام ! وفي جرس الألفاظ تشديد : عدده . كلا . لينبذن . تطلع . ممددة وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : ( لينبذن في الحطمة . وما أدراك ما الحطمة ? نار الله الموقدة . . )فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الإجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد ( ويل . لينبذن . الحطمة . . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ) . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة( الهمزة اللمزة ) !
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . .
الهماز : بالقول ، واللماز : بالفعل . يعني : يزدري بالناس{[30507]} وينتقص بهم . وقد تقدم بيان ذلك في قوله : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] .
قال ابن عباس : { هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } طعان معياب . وقال الربيع بن أنس : الهُمَزة ، يهمزه في وجه ، واللمزة{[30508]} من خلفه . وقال قتادة : يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه ، ويأكل لحوم الناس ، ويطعنُ عليهم .
وقال مجاهد : الهمزة : باليد والعين ، واللمزةُ : باللسان . وهكذا قال ابن زيد . وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : هُمَزة لحوم الناس .
ثم قال بعضهم : المراد بذلك الأخنس بن شريق ، وقيل : غيره . وقال مجاهد : هي عامة .
سميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير { سورة الهمزة } بلام التعريف . وعنونها في صحيح البخاري وبعض التفاسير { سورة ويل لكل همزة } . وذكر الفيروز آبادي في بصائر ذوي التمييز أنها تسمى { سورة الحطمة } لوقوع هذه الكلمة فيها .
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات .
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين وسبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم . وسمي من هؤلاء المشركين : الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأمية بن خلف ، وأبي بن خلف وجميل بن معمر بن بني جمح { وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنينا } والعاص بن وائل من بني سهم . وكلهم من سادة قريش . وسمي الأسود بن عبد يغوث ، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف من أهل الطائف . وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهار بثرائهم وسؤددهم . وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمين ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماءهم .
فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا همز المسلمين ولمزهم ضربا من ضروب أذاهم طمعا في أن يلجئهم الملل من أصناف الأذى ، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك .
كلمة ( ويل له ) دُعاء على المجرور اسمُه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند اللَّه } في سورة البقرة ( 79 ) .
والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب .
وكلمة ( كُلّ ) تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدناً لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة .
وهُمَزَة ولُمزة : بوزن فُعَلَة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه . وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم : ضُحَكَة لكثير الضحك ، ولُعَنَة لكثير اللعن ، وأصلها : أن صيغة فُعَل بضم ففتح ترد للمبالغة في فَاعل كما صرح به الرضيّ في شرح « الكافية » يقال : رجل حُطَم إذا كان قليل الرحمة للماشية ، أي والدواب .
ومنه قولهم : خُتع ( بخاء معجمة ومثناة فوقية ) وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف أُلحق به الهاء كما أُلحقت في : علاّمة ورحَّالة ، فيقولون : رجل حُطمة وضُحكة ومنه هُمزة ، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في « الكشاف » ، وقد قالوا : إن عُيَبَة مساوٍ لعيابة ، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فُعَل وفُعَلَة نحو حُطم وحطمة بدون هاء وبهاء ، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعلة دون فُعل نحو رجل ضُحَكة ، ومن الأمثلة ما سمع فيه فُعَل دون فُعَلَة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غُدَر ويا فُسق ويا خُبَث ويا لُكع .
قال المرادي في « شرح التسهيل » قال : بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها ، وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اه . قلت : وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في « المقامة السابعة والثلاثين » : « صَهْ يا عُقَق ، يا من هو الشّجَا والشَرَق » .
وهُمزة : وصف مشتق من الهَمز . وهو أن يعيب أحدٌ أحداً بالإِشارة بالعين أو بالشِّدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه ، ويقال : هَامز وهمَّاز ، وصيغة فُعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف .
ووقع { همزة } وصفاً لمحذوف تقديره : ويل لكل شَخْص هُمزة ، فلما حذف موصُوفه صار الوصف قائماً مقامه فأضيف إليه ( كُلّ ) .
ولمزة : وصف مشتق من اللمز وهو المواجعة بالعيب ، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في هُمزة .
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ ، ومَن عامَلَ من المسلمين أحداً من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد .
فمن اتصف بشيء من هذا الخُلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك . وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يُعد من الكبائر إلا ضربُ المسلم .
وسبُّ الصحابة رضي الله عنهم وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدناً فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر .