قوله عز وجل : { ويوم ينفخ في الصور } والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقال الحسن : الصور هو القرن ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد فتحيا الأجساد . وقوله : { ففزع من في السموات ومن في الأرض } أي : فصعق ، كما قال في آية أخرى : { فصعق من في السموات ومن في الأرض } أي : ماتوا ، والمعنى أنهم يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا . وقيل : ينفخ إسرافيل في الصور . ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين . قوله { إلا من شاء الله } اختلفوا في هذا الاستثناء ، روي عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن قوله : { إلا من شاء الله } قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش . وروى سعيد بن جبير ، وعطاء عن ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم . وفي بعض الآثار : الشهداء ثنية الله عز وجل ، أي : الذين استثناهم الله تعالى . وقال الكلبي ، ومقاتل : يعني جبريل ، ومكائيل وإسرافيل ، وملك الموت ، فلا يبقة بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ، ثم يقبض الله روح ميكائيل ، ثم روح ملك الموت ، ثم روح جبريل فيكون آخرهم موتاً جبريل . ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت : خذ نفس إسرافيل ، ثم يقول : من بقي يا ملك الموت ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، بقى جبريل وميكائيل وملك الموت ، فيقول : خذ نفس ميكائيل ، فيأخذ نفسه ، فيقع كالطود العظيم ، فيقول : من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت ، فيقول مت يا ملك الموت فيموت ، فيقول يا جبريل من بقي فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني ، قال : فيقول يا جبريل لا بد من موتك ، فيقع ساجداً يخفق بجناحيه " . فيروى أن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب . ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش ، فيقبض روح جبريل وميكائيل ، ثم أرواح حملة العرش ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن علي الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل ابن جعفر ، أنبأنا محمد بن عمرو حدثنا علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يرفع رأسه ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان ممن استثنى الله عز وجل أم رفع رأسه قبلي ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " . وقال الضحاك : هم رضوان ، والحور ، ومالك ، والزبانية . وقيل : عقارب النار وحياتها . قوله عز وجل : { وكل } أي : الذين أحيوا بعد الموت ، { أتوه } قرأ أعمش ، وحمزة ، وحفص : أتوه مقصوراً بفتح التاء على الفعل ، أي : جاؤوه ، وقرأ الآخرون بالمد وضم التاء كقوله تعالى : { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } { داخرين } صاغرين .
ومن آيتي الليل والنهار فى الأرض ، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور ، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله . وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار ؛ وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير ، ومن عقاب بالفزع والكب في النار :
( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ؛ وكل أتوه داخرين . وترى الجبال تحسبها جامدة ، وهي تمر مر السحاب ، صنع الله الذي أتقن كل شيء ، إنه خبير بما تفعلون . من جاء بالحسنة فله خير منها ، وهم من فزع يومئذ آمنون . ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار . هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) . .
والصور البوق ينفخ فيه . وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر . . قيل هم الشهداء . . وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله .
ثم تكون نفخة البعث . ثم نفخة الحشر . وفي هذه يحشر الجميع ( وكل أتوه داخرين )أذلاء مستسلمين .
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفَزَع في الصُّور ، وهو كما جاء في الحديث : " قرن ينفخ فيه " . وفي حديث( الصُّور ) أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى ، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها ، وذلك في آخر عمر الدنيا ، حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء ، فيفزع مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض { إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ، وهم الشهداء ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا عُبَيد الله{[22192]} بن مُعاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم : سمعت يعقوب بن عاصم بن عُرْوَة بن مسعود الثقفي ، سمعت عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه ، وجاءه رجل فقال : ما هذا الحديث الذي تَحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله - أو : لا إله إلا الله - أو كلمة نحوهما - لقد هممت ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا يخرب البيت ، ويكون ويكون . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - [ لا أدري أربعين ]{[22193]} يومًا ، أو أربعين شهرًا ، أو أربعين عامًا - فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه . ثم يمكث الناس سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخَلَتْه{[22194]} عليه حتى تقبضه " . قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك{[22195]} دار رزقهم ، حسنٌ عيشهم . ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا [ ورفع ليتا ]{[22196]} . قال : " وأول مَنْ يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله " . قال : " فَيَصْعَقُ ويَصعقُ الناس ، ثم يرسل الله - أو قال : ينزل الله مطرًا كأنه الطَّل - أو قال : الظل - نعمان الشاك - فتنبت{[22197]} منه أجساد الناس ، ثم ينفَخُ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، وقفوهم إنهم مسؤولون . ثم يقال : أخرجوا بعث النار . فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين " . قال : " فذلك{[22198]} يوم يجعل الولدان شيبا ، وذلك يوم يكشف عن ساق " {[22199]} .
وقوله{[22200]} : ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا " الليت{[22201]} : هو صفحة العنق ، أي : أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا .
فهذه نفخة الفزع . ثم بعد ذلك نفخة الصعق ، وهو الموت . ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين ، وهو النشور من القبور لجميع الخلائق ؛ ولهذا قال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } - قُرئ بالمد ، وبغيره{[22202]} على الفعل ، وكلٌ بمعنى واحد - و { دَاخِرِينَ } أي : صاغرين مطيعين ، لا يتخلف أحد
عن أمره ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 52 ] ، وقال { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] . وفي حديث الصور : أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح ، فتوضع في ثقب{[22203]} في الصور ، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت{[22204]} الأجساد في قبورها وأماكنها ، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح ، تتوهج أرواح المؤمنين نورًا ، وأرواح الكافرين ظُلمة ، فيقول الله ، عز وجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح{[22205]} إلى جسدها . فتجيء الأرواح إلى أجسادها ، فتدب فيها كما يَدب السم في اللديغ ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] .
عطف على { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } [ النمل : 83 ] ، عاد به السياق إلى الموعظة والوعيد فإنهم لما ذكروا ب« يوم يحشرون إلى النار » ذكروا أيضاً بما قبل ذلك وهو يوم النفخ في الصور ، تسجيلاً عليهم بإثبات وقوع البعث وإنذاراً بما يعقبه مما دل عليه قوله { ءاتوه داخرين } وقوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } .
والنفخ في الصور تقدم في قوله { وله الملك يوم ينفخ في الصور } في سورة الأنعام ( 73 ) وهو تقريب لكيفية صدور الأمر التكويني لإحياء الأموات وهو النفخة الثانية المذكورة في قوله تعالى { ثم نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : 68 ] ، وذلك هو يوم الحساب . وأما النفخة الأولى فهي نفخة يعنى بها الإحياء ، أي نفخ الأرواح في أجسامها وهي ساعة انقضاء الحياة الدنيا فهم يصعقون ، ولهذا فرع عليه قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض } ، أي عقبه حصول الفزع وهو الخوف من عاقبة الحساب ومشاهدة معدات العذاب ، فكل أحد يخشى أن يكون معذباً ، فالفزع حاصل مما بعد النفخة وليس هو فزعاً من النفخة لأن الناس حين النفخة أموات .
والاستثناء مجمل يبينه قوله تعالى بعد { من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون } [ النمل : 89 ] وقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } إلى قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 101 103 ] وذلك بأن يبادرهم الملائكة بالبشارة . قال تعالى { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] وقال { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ يونس : 64 ] .
وجيء بصيغة الماضي في قوله { ففزع } مع أن النفخ مستقبل ، للإشعار بتحقق الفزع وأنه واقع لا محالة كقوله { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] لأن المضي يستلزم التحقق فصيغة الماضي كناية عن التحقق ، وقرينة الاستقبال ظاهرة من المضارع في قوله { ينفخ } .
والداخرون : الصاغرون . أي الأذلاء ، يقال : دَخِرَ بوزن منع وفرِح والمصدر الدخر بالتحريك والدخور .
وضمير الغيبة الظاهر في { ءاتوه } عائد إلى اسم الجلالة ، والإتيان إلى الله الإحضار في مكان قضائه ويجوز أن يعود الضمير على { يوم ينفخ في الصور } على تقدير : ءاتون فيه والمضاف إليه ( كل ) المعوض عنه التنوين ، تقديره : من فزع ممن في السموات والأرض آتوه داخرين . وأما من استثنى الله بأنه شاء أن لا يفزعوا فهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة .
وقرأ الجمهور { آتوه } بصيغة اسم الفاعل من أتى . وقرأ حمزة وحفص { أتوه } بصيغة فعل الماضي فهو كقوله { ففزع } .