الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ} (87)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } وهي النفخة الأولى .

أخبرنا محمّد عبدالله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا محمّد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أسباط قال : حدّثنا سلمان التميمي ، عن أسلم العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبدالله بن عمرو قال : " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الصُّور ، فقال : " قرن ينفخ فيه " .

وقال مجاهد : الصُّور كهيئة البوق ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وعلى هذا أكثر المفسّرين ، يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ينتظر متى يُؤمَر فينفخ " .

وقال قتادة وأبو عبيدة : هو جمع صورة يقال : صورة وصور ، وصور : مثل سور البناء والمسجد ، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة :

سرت إليها في أعالي السور ***

فمعنى الآية : ونفخ في صور الخلق .

وقد ورد في كيفيّة نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمّد بن عبدالله بن ابراهيم الشافعي ببغداد ، قال : أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال : أخبرني أبو عاصم الضحّاك بن مخلد ، عن إسماعيل بن رافع ، عن محمّد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى ؟

قال : قلت يا رسول الله : وما الصور ؟ قال : القرن ، قال : قلت : كيف هو ؟ قال : عظيم ، والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض ، فينفخ فيه بثلاث نفخات : الأُولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ، فأمر الله عزّ وجل إسرافيل ( عليه السلام ) بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلاّ من شاء الله ، فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ : { وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ ص : 15 ] فيسيّر الله عزّ وجلّ الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سراباً ، وترجّ الأرض بأهلها رجّاً فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر ، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح ، أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول الله عزّ وجلّ : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } [ النازعات : 6-8 ] فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهنا ، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً ، وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ { يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } [ غافر : 32-33 ] .

فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمراً عظيماً لم يروا مثله ، وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليمٌ ، ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل ، ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك " " .

قال أبو هريرة : يا رسول الله فمن استثنى الله عزّ وجلّ حيث يقول : ( ففزع من في السموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ) .

قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أُولئك هم الشهداء ، وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربّهم يرزقون ، ووقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله : ( يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زَلزَلة الساعة شيءٌ عظيم ( إلى قوله ) ولكنّ عذاب الله شديد ) فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله ؛ إلاّ أنّه يطول عليهم ، ثمّ يأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق ( فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ) فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلاّ من شئت ، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت ، وبقي حملة العرش ، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، وبقيت أنا ، فيقول الله عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل ، فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان .

ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنتّ الحيّ الذي لا تموت وبقيتْ حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت .

ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول : وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمتْ فيموت ، فإذا لم يبق إلاّ الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وكان آخراً كما كان أوّلا طوى السموات كطيّ السِجِلِّ للكتب .

ثمّ قال : أنا الجبّار ، لمن الملك اليوم ، ولا يجيبه أحد ، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : لله الواحد القهّار ( يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات ) مطويّات فيبسطها بسطاً ، ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكافي ( لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً ) .

ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل ، من كان في بطنها ، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال ، ثمّ يأمر السحاب أن تُنزل بمطر أربعين يوماً حتى يكون ( من فوقهم ) إثنا عشر ذراعاً ، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت ، قال الله سبحانه : ليَحيَ حملة العرش ، فيحيون . ثمّ يقول الله تعالى : ليَحي جبريل وميكائيل . فيحييان ، فيأمر الله إسرافيل ، فيأخذ الصور فيضعه على فيه ، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها ، تتوهّج أرواح المؤمنين نوراً والأخرى ظلمة ، فيقبضها جميعاً ثمّ يلقيها على الصور ، ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض ، فيقول الله سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح الخياشم ، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ .

ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعاً ، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عُراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافرون : هذا يومٌ عَسِر ) .

قوله عزّ وجل : { فَفَزِعَ } أي فيفزع ، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها " إذا " ، لأنّ إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني . { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنّهم الشهداء { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص { أَتَوْهُ } مقصوراً على الفعل بمعنى جاءوه عطفاً على قوله : { فَفَزِعَ } و { أَتَوْهُ } اعتباراً بقراءة ابن مسعود .

أخبرنا محمّد بن نعيم قال : حدّثنا الحسين بن أيّوب قال : حدّثنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا هشام ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، وأخبرنا محمّد بن عبدوس قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا محمّد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني عدّة ، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلّهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال : قرأت على عبدالله بن مسعود { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } بتطويل الألف ، فقال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ } قصره وقرأ الباقون بالمدّ وضمّ التاء على مثال فاعلوه كقوله : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } وهي قراءة علي رضي الله عنه { دَاخِرِينَ } صاغرين .