معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (101)

قوله تعالى : { تلك القرى } ، أي : هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها ، يعني : قرى قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وشعيب .

قوله تعالى : { نقص عليك من أنبائها } ، أخبارها لما فيها من الاعتبار .

قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } ، بالآيات والمعجزات والعجائب .

قوله تعالى : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب ، نظيره قوله عز وجل : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } [ الأنعام : 28 ] . قال ابن عباس ، والسدي : يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم ، حين أخرجهم من ظهر آدم ، فأقروا باللسان ، وأضمروا التكذيب ، وقال مجاهد : معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم ، لقوله عز وجل : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . قال يمان ابن رباب : هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه ، يقول : ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل كذبوا بما كذب أوائلهم ، نظيره قوله عز وجل : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } [ الذاريات :52 ] .

قوله تعالى : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } . أي : كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها ، كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب أن لا يؤمنوا من قومك .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (101)

94

والآن - وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية ، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية - يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام :

( تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .

فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول [ ص ] به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه .

( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ) . .

فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين الى الإيمان . وليس البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها ، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب :

( كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (101)

لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب [ عليهم الصلاة والسلام ]{[11989]} وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي : يا محمد { مِنْ أَنْبَائِهَا } أي : من أخبارها ، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود : 101 ، 102 ]

وقوله تعالى : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } الباء سببية ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم . حكاه ابن عطية ، رحمه الله ، وهو متجه حسن ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون ]{[11990]} } [ الأنعام : 110 ، 111 ] ؛ ولهذا قال هنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } .

/خ102


[11989]:زيادة من أ.
[11990]:زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (101)

لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق .

وجملة : { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } [ الأعراف : 94 ] الآية .

و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } [ التوبة : 35 ] أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة .

وجملة : { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول .

وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعدُ بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : { نقص } من التجدد والاستمرار ، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها .

وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : { القرى } .

و ( منْ ) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ .

والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .

والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : رسلهم .

وجملة : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة : { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وجمع « البينات » يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة ( 73 ) .

( والفاء ) في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان .

وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر . وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران ( 79 ) . والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه .

{ وما كذبوا } موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية .

وما صْدَقُ ( ما ) الموصولة : ما يدل عليه { كذبوا } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث . وشأن ( ما ) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صْدقُ ( ما ) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل { كذبوا } هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ( به ) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وكذّب به قومُك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وحُذف المتعلق هنا إيجازاً ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ] وقد سبق في ذلك قوله : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ] ولهذا لم يحذف متعلق فعل { كذبوا } في نظير هذه الآية من سورة يونس .

والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء { قبلُ } على الضم تقديره : من قبلِ مجيء البينات .

وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } .

ومعنى قولهن : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل { يطبع } ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .

وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ) .

وإظهار المسند إليه في جملة { يطبع الله } دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده .

والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .

والتعريف في { الكافرين } تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم .

وفي قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه .