الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{تِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآئِهَاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤۡمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبۡلُۚ كَذَٰلِكَ يَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (101)

قوله تعالى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ } : قال الزمخشري : كقوله { وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] في كونه مبتدأً وخبراً وحالاً " يعني أن " تلك " مبتدأٌ مشارٌ بها إلى ما بعدها ، و " القرى " خبرها ، و " نقصُّ " حال أي قاصّين كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] . قال الزمخشري : " فإن قلت : ما معنى " تلك القرى " حتى يكون كلاماً مفيداً ؟ قلت : هو مفيد ولكن بالصفة في قولك : " هو الرجلُ الكريم " . قلت : يعني أن الحالَ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب ، كما تلزم الصفة في قولك : " هو الرجل الكريم " ألا ترى أنك لو اقتصرت على " هو الرجل " لم يكن مفيداً ، ويجوز أن تكون " القرى " صفةً/ لتلك ، و " نقصُّ " الخبر ، ويجوز أن يكون " نَقُصُّ " خبراً بعد خبر . و " نقصُّ " يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي : قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها ، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب . وفي قوله " القرى " بأل تعظيمٌ كقوله تعالى : " ذلك الكتابُ " ، وقول الرسول عليه السلام : " أولئك الملأُ من قريش " وقول أمية :

تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ *** شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا

و " مِنْ " للتبعيض كما تقدَّم ، لأنه إنما قَصَّ عليه عليه السلام ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما .

قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ } الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى ، وقال يمان بن رئاب : " إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى ، والضمير في " كذَّبوا " لأسلافهم " . وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي : فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْيَ الفعل معها أبلغ . و " ما " موصولةٌ اسميةٌ ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي : بما كذَّبوه . ولا يجوز أن يُقَدَّر " به " وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق .

وقال هنا { بِمَا كَذَّبُواْ } فلم يذكر متعلق التكذيب ، وفي يونس ذكره فقال :

{ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } [ يونس : 74 ] ، والفرق أنه لمَّا حذفه في قوله { وَلَكِن كَذَّبُواْ } [ الأعراف : 96 ] استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك ، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ } [ يونس : 74 ] { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ يونس : 73 ] فناسب ذكرَه موافقةٌ . قال معناه الكرماني .

قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ } أي : مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم .