معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

قوله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي ، ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } وقال : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } { إن اتقيتن } الله فأطعتنه ، { فلا تخضعن بالقول } لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ، { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي : فجور وشهوة ، وقيل نفاق ، والمعنى : لا تقلن قولاً يجد منافق أو فاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن . والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع . { وقلن قولاً معروفاً } ما يوجبه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

28

ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء ؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس ، وواجبهن في عبادة الله ، وواجبهن في بيوتهن ؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم ، وحياطته وصيانته من الرجس ؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ، مما يلقي عليهن تبعات خاصة ، ويفردهن بين نساء العالمين :

( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ، وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا . واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة . إن الله كان لطيفا خبيرا ) . .

لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع ، وإشباع الغريزة . ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة .

كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية . ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة .

هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس ؛ وانحطاط الذوق الجمالي ؛ والاحتفال بالجسديات العارمة ، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف . . يبدو هذا في أشعار الجاهليين حول جسد المرأة ، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه ، وإلى أغلظ معانيه !

فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين ؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد ، وإطفاء لفورة اللحم والدم ، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة ، بينهما مودة ورحمة ، وفي اتصالهما سكن وراحة ؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان ، وعمارة الأرض ، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله .

كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته ، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات .

والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام ، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن . وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع ؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي ، وبالنظافة في علاقات الجنسين ، وصيانتها من كل تبذل ، وتصفيتها من عرامة الشهوة ، حتى في العلاقات الجسدية المحضة .

وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا . وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس ، وفي خاصة أنفسهن ، وفي علاقتهن بالله . توجيه يقول لهن الله فيه : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس - أهل البيت - ويطهركم تطهيرا ) .

فلننظر في وسائل إذهاب الرجس ، ووسائل التطهر ، التي يحدثهن الله - سبحانه - عنها ، ويأخذهن بها . وهن أهل البيت ، وزوجات النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأطهر من عرفت الأرض من النساء . ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبيته الرفيع .

إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن ، ورفيع مقامهن ، وفضلهن على النساء كافة ، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين . على أن يوفين هذا المكان حقه ، ويقمن فيه بما يقتضيه :

( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . .

( لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) . . فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد ، ولا تشاركن فيه أحدا . ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى . فليست المسألة مجرد قرابة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن .

وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين ؛ والذي يقرره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته ، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ما شئتم " .

وفي رواية أخرى : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " .

وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها ، وهو التقوى ، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا :

( فلا تخضعن بالقول ، فيطمع الذي في قلبه مرض ) . .

ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ، ويحرك غرائزهم ، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم !

ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير ؛ إنهن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهات المؤمنين ، اللواتي لا يطمع فيهن طامع ، ولا يرف عليهن خاطر مريض ، فيما يبدو للعقل أول مرة . وفي أي عهد يكون هذا التحذير ? في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جيمع الأعصار . . ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول ، وتترقق في اللفظ ، ما يثير الطمع في قلوب ، ويهيج الفتنة في قلوب . وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد ، وفي كل بيئة ، وتجاه كل امرأة ، ولو كانت هي زوج النبي الكريم ، وأم المؤمنين . وأنه لا طهارة من الدنس ، ولا تخلص من الرجس ، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس .

فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه . في عصرنا المريض الدنس الهابط ، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات ، وترف فيه الأطماع ? كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة ، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة ، ويوقظ السعار الجنسي المحموم ? كيف بنا في هذا المجتمع ، في هذا العصر ، في هذا الجو ، ونساء يتخنثن في نبراتهن ، ويتميعن في أصواتهن ، ويجمعن كل فتنة الأنثى ، وكل هتاف الجنس ، وكل سعار الشهوة ؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات ? ! وأين هن من الطهارة ? وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث . وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين ? !

( وقلن قولا معروفا ) . .

نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة ؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة ؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث . فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ، ولا هذر ولا هزل ، ولا دعابة ولا مزاح ، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد .

والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات . كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، فقال مخاطبا لنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] {[23381]} بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن ، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ، ثم قال : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } .

قال السُّدِّي وغيره : يعني بذلك : ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ؛ ولهذا قال : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : دَغَل ، { وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا } : قال ابن زيد : قولا حسنًا جميلا معروفًا في الخير .

ومعنى هذا : أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي : لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها .


[23381]:- زيادة من ت ، وفي ف: "صلوات الله وسلامه عليه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ وَأَقِمْنَ الصّلاَةَ وَآتِينَ الزّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً } .

يقول تعالى ذكره لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِنَ النّساءِ من نساء هذه الأمة إنِ اتّقَيْتُنّ الله فأطعتنه فيما أمركنّ ونهاكنّ ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِنَ النّساءِ يعني من نساء هذه الأمة .

وقوله : فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ يقول : فلا تلنّ بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكنّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأَحَدٍ مِنَ النّساءِ إنِ اتّقَيْتُنّ فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ يقول : لا ترخصن بالقول ، ولا تخضعن بالكلام .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ قال : خضع القول ما يكره من قول النساء للرجال مما يدخل في قلوب الرجال .

وقوله : فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ يقول : فيطمع الذي في قلبه ضعف فهو لضعف إيمانه في قلبه ، إما شاكّ في الإسلام منافق ، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله ، وإما متهاون بإتيان الفواحش .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : إنما وصفه بأن في قلبه مرضا ، لأنه منافق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِه مَرَضٌ قال : نفاق .

وقال آخرون : بل وصفه بذلك لأنهم يشتهون إتيان الفواحش . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قال : قال عكرمة : شهوة الزنا .

وقوله : وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا يقول : وقلن قولاً قد أذن الله لكم به وأباحه . كما :

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا قال : قولاً جميلاً حسنا معروفا في الخير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا} (32)

{ يانسآء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن }

أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه .

وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وهمزته بدل من الواو . وأصلهُ : وَحَد بوزن فَعَل ، أي متوحِّد ، كما قالوا : فَرَد بمعنى منفرد . قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :

كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد

يُريد على ثور وحشي منفرد . فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أَحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس .

ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [ النساء : 95 ] ، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة { غير أولي الضرر } وجه ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ( 95 ) . فالمعنى : أنتُنَّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص ، ألا ترى إلى قوله : حُبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وقال تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن .

والتقييد بقوله : { إن اتقيتن } ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل " فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام .

وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله .

واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة . وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط . أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في « شرح الترمذي » في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر ، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر ، ثم رُفع الميزان .

والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال . وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل . ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد » . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها .

والأحسن أن يكون الوقف على { إن اتقيتن } ، وقوله { فلا تخضعن } ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط .

{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }

فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها .

وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة . فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين .

والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل .

والباء في قوله : { بالقول } يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تُخضعن القول ، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً ، أي رقيقاً متفكّكا . وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء . ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( في ) ، أي لا يكن منكُن لِين في القول .

والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلاً .

والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك .

وتقدم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .

وانتصب { يطمَع } في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع .

وحذف متعلِق { فيطمع } تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة .

وعَطْفُ { وقلن قولاً معروفاً } على { لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار .

والقول : الكلام .

والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب : فليقل خيراً أو ليصمت . وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل .