قوله تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده } ، أي : بعد انطلاقه إلى الجبل .
قوله تعالى : { من حليهم } التي استعادوها من قوم فرعون . قرأ حمزة والكسائي { من حليهم بكسر الحاء ، وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام ، خفيف اتخذ السامري منها .
قوله تعالى : { عجلاً } وألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلاً .
قوله تعالى : { جسداً } حياً لحماً ودماً .
قوله تعالى : { له خوار } . وهو صوت البقر ، وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة أهل التفسير ، وقيل : كان جسداً مجسداً من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوت ، وقيل : كان صوت حفيف الريح ، يدخل في جوفه ويخرج ، والأول أصح . وقيل : إنه ما خار إلا مرة واحدة ، وقيل : إنه كان يخور كثيراً ، كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقال وهب : كان يسمع منه الخوار وهو لا يتحرك ، وقال السدي : كان يخور ويمشي .
قوله تعالى : { ألم يروا } يعني : الذين عبدوا العجل .
قوله تعالى : { أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } .
قوله تعالى : { اتخذوه وكانوا ظالمين } أي : اتخذوه إلهاً وكانوا كافرين .
وبينما كان موسى - عليه السلام - في حضرة ربه ، في ذلك الموقف الفريد ، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار ؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار . . كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون ، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار - لا حياة فيه - يعبدونه من دون الله !
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع الى المشهد العاشر . نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته الى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته :
( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار . ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) . .
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق ؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد ؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم ! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً . فلما خلوا الى أنفسهم ، ورأوا عجلاً جسداً من الذهب - لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد - صنعه لهم السامري - رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه - واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران . . لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه ، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري : " هذا إلهكم وإله موسى " الذي خرج موسى لميقاته معه ؛ فنسي موسى موعده معه - ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها ، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري : لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه - ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار - رب العالمين - ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم ! . . وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم . صورة يعجب منها القرآن الكريم ؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام !
( ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين ! ) . .
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر . والله خلقهم وما يصنعون ؟ !
وكان فيهم هارون - عليه السلام - فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف . وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد - وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل !
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط ، الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل ، عليه السلام ، فصار عجلا جسدا له خوار ، و " الخوار " صوت البقر .
وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [ عليه السلام ]{[12137]} لميقات ربه تعالى ، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [ طه : 85 ]
وقد اختلف المفسرون في هذا العجل : هل صار لحما ودما له خوار ؟ أو استمر على كونه من ذهب ، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ؟ على قولين ، والله أعلم . ويقال : إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به ، { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] فقال الله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [ طه : 89 ]
وقال في هذه الآية الكريمة : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل ، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه ، أن عبدوا{[12138]} معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم ، ولا يرشدهم إلى خير . ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم{[12139]} عَمَى الجهل والضلال ، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حبك الشيء يُعْمي ويُصِم " {[12140]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : واتخذ بنو إسرائيل قوم موسى من بعد ما فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لمناجاته ووفاء للوعد الذي كان ربه وعده من حليهم عجلاً ، وهو ولد البقرة ، فعبدوه . ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال : جَسَدا لَهُ خُوَارٌ والخوار : صوت البقر . يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضلّ بمثله أهل العقل ، وذلك أن الربّ جلّ جلاله الذي له ملك السموات والأرض ومدبّر ذلك ، لا يجوز أن يكون جسدا له خوار ، لا يكلم أحدا ولا يرشد إلى خير . وقال هؤلاء الذين قصّ الله قصصهم لذلك هذا إلهنا وإله موسى ، فعكفوا عليه يعبدونه جهلاً منهم وذهابا عن الله وضلالاً . وقد بيّنا سبب عبادتهم إياه وكيف كان اتخاذ من اتخذ منهم العجل فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وفي الحُليّ لغتان : ضمّ الحاء وهو الأصل ، وكسرها ، وكذلك ذلك في كلّ ما شاكله من مثل صليّ وجثيّ وعتيّ . وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب ، لاستفاضة القراءة بهما في القرأة ، لا تفارق بين معنييهما .
وقوله : ألَمْ يَرَوْا أنّهُ لا يُكَلّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً يقول : ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه أن العجل لا يُكَلّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً يقول : ولا يرشدهم إلى طريق . وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقا ، بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله ، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير وينهاهم عن سبيل المهالك والردى . يقول الله جلّ ثناؤه : اتّخَذُوهُ : أي اتخذوا العجل إلها . وكانُوا باتخاذهم إياه ربا معبودا ظالِمِينَ لأنفسهم ، لعبادتهم غير من له العبادة ، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة . وقد بيّنا معنى الظلم فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
{ واتخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه للميقات . { من حُليّهم } التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم . وهو جمع حلي كثدي وثدي . وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد . { عجلا جسدا } بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل . { له خوار } صوت البقر . روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا . وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها . وقرئ " جؤار " أي صياح . { ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا } تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر . { اتخذوه } تكرير للذم أي اتخذوه إلها . { وكانوا ظالمين } واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم .
{ اتخذ } أصله ?يَتَخذ وزنه افتعل ، من َتَخَذ ، هذا قول أبي علي الفارسي ، والضمير في { بعده } عائد على موسى أي بعد مضيه إلى المناجاة وأضاف الحليّ إلى بني إسرائيل وإن كان مستعاراً من القبط إذ كانوا قد تملكوه إما بأن نفلوه كما روي وحكى يحيى بن سلام عن الحسن أنه قال : استعار بنو إسرائيل حلي القبط ليوم الزينة فلما أمر موسى أن يسري بهم ليلاً تعذر عليهم رد العواري ، وأيضاً فخشوا أن يفتضح سرهم ، ثم إن الله نفلهم إياه ، ويحتمل أن يضاف الحلي إلى بني إسرائيل من حيث تصرفت أيديهم فيه بعد غزو آل فرعون ، ويروى أن السامري واسمه موسى بن ظفر وينسب إلى قرية تسمى سامرة قال لهارون حين ذهب موسى إلى المناجاة : يا هارون إن بني إسرائيل قد بددوا الحلي الذي استعير من القبط وتصرفوا فيه وأنفقوا منه ، فلو جمعته حتى يرى موسى فيه رأيه ، قال : فجمعه هارون فلما اجتمع قال للسامري : أنت أولى الناس بأن يختزن عندك ، فأخذه السامري وكان صائغاً فصاغ منه صورة عجل وهو ولد البقرة . { جسداً } أي جثة وجماداً وقيل كان جسداً بلا رأس وهذا تعلق بأن الجسد في اللغة ما عدا الرأس وقيل إن الله جعل له لحماً ودماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآثار في أن موسى برده بالمبارد تكذب ذلك ، و «الخوار » صوت البقر ، ويروى أن هذا العجل إنما خار مرة واحدة ، وذلك بحيلة صناعية من السامري أو بسحر تركب له من قبضه القبضة من أثر الرسول ، أو بأن الله أخار العجل لفتن بني إسرائيل ، وقرأت فرقة له «جوار » بالجيم وهو الصياح قال أبو حاتم وشدة الصوت ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة «من حُلِيهم » بضم الحاء وكسر اللام ، وهو جمع حلي على مثال ثدي ، وثديّ ، وأصله حلوي قلبت الواو ياء وأدغمت فجاء حلي فكسرت اللام لتناسب الياء ، وقرأ حمزة والكسائي «من حِليهم » بكسر الحاء على ما قدمنا من التعليل ، قال أبو حاتم إلا أنهم كسروا الحاء إتباعاً لكسرة اللام ، قال أبو علي وقوى التغيير الذي دخل على الجمع على هذا التغيير الأخير ، قال ومما يؤكد كسر الفاء في هذا النحو من الجمع قولهم قسيّ ، قال أبو حاتم وقرأ هكذا يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش وأصحاب عبد الله ، وقرأ يعقوب الحضرمي «من حَلْيهم » بفتح الحاء وسكون اللام ، فإما أن يكون مفرداً يراد به الجميع وإما أن يكون جمع حلية كتمرة وتمر ومعنى الحلي ما يتجمل به من حجارة وذهب وفضة ، ثم بين الله تعالى سوء فطرهم وقرر فساد اعتقادهم بقوله { ألم يروا أنه لا يكلمهم } الآية ، وذلك أن الصامت الجماد لا يتصف بالإلهية والذي لا يرشد إلى خير ولا يكشف غماً كذلك ، والضمير في { اتخذوه } عائد على العجل ، وقوله { وكانوا } إخبار لنا عن جميع أحوالهم ماضياً وحالاً ومستقبلاً ، ويحتمل أن تكون الواو واو حال ، وقد مر في البقرة سبب اتخاذ العجل وبسط تلك الحال بما أغنى عن إعادته هاهنا .