قوله تعالى : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } ، أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله ببعث الرسل ، وبيان الشريعة ، والدعاء إلى طاعة الله ، وهذا معنى قول الحسن ، والسدي ، والضحاك ، والكلبي . وقال عطية : لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم ، فعلى هذا معنى قوله : { بعد إصلاحها } أي بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب .
قوله تعالى : { وادعوه خوفًا وطمعًا } أي خوفًا منه ومن عذابه وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه . وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل .
قوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ولم يقل قريبة ، قال سعيد بن جبير : الرحمة هاهنا الثواب ، فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } [ النساء :8 ] ولم يقل منها ، لأنه أراد الميراث والمال . وقال الخليل بن أحمد : القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع ، قال أبو عمرو بن العلاء : القريب في اللغة : القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة ، تقول العرب : هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة ، وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة .
( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ )
كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى ، وقد أصلحها الله بالشريعة . . والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب ، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها . . فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر . والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس . وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
خوفاً من غضبه وعقابه . وطمعاً في رضوانه وثوابه .
( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) . .
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم . . كما جاء في الوصف النبوي للإحسان .
وقوله تعالى : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح ! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك ، كان أضر ما يكون على العباد . فنهى [ الله ]{[11833]} تعالى عن ذلك ، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه ، فقال : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفا مما عنده من وبيل العقاب ، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب .
ثم قال : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين ، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ . [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ] }{[11834]} [ الأعراف : 156 ، 157 ] .
وقال : { قَرِيبٌ } ولم يقل : " قريبة " ؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضافة إلى الله ، فلهذا قال : قريب من المحسنين .
وقال مطر الوراق : تَنَجَّزوا موعود{[11835]} الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين ، رواه ابن أبي حاتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها وذلك هو الفساد فيها . وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى وبيّنا معناه بشواهده . بعدَ إصْلاحِها يقول : بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحقّ ، وإيضاحه حججه لهم . وَادْعُوهُ خَوْفا وَطَمَعا يَقُولُ : وأخلصوا له الدعاء والعمل ، ولا تشركوا في عملكم له شيئا غيره من الاَلهة والأصنام وغير ذلك ، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه وإن من كان دعاؤه إياه على غير ذلك فهو بالاَخرة من المكذّبين ، لأن من لم يخف عقاب الله ولم يَرْج ثوابه لم يبال ما ركب من أمر يسخطه الله ولا يرضاه . إنّ رَحمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ يقول تعالى ذكره : إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم . وذلك هو رحمته لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعدّ لهم من كرامته ، إلاّ أن تفارق أرواحهم أجسادهم ولذلك من المعنى ذكر قوله : قَريبٌ وهو من خبر الرحمة والرحمة مؤنثة ، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النسب والأوقات بذلك المعنى ، إذا رفعت أخبارا للأسماء أجرتها العرب مجرى الحال فوحدتها مع الواحد والاثنين والجميع وذكّرتها مع المؤنث ، فقالوا : كرامة الله بعيد من فلان ، وهي قريب من فلان ، كما يقولون : هند قريب منا ، والهندان منا قريب ، والهندات منا قريب ، لأن معنى ذلك : هي في مكان قريب منا ، فإذا حذفوا المكان وجعلوا القريب خلفا منه ، ذكروه ووحدوه في الجمع ، كما كان المكان مذكرا وموحدا في الجمع . وأما إذا أنثوه أخرجوه مثنى مع الاثنين ومجموعا مع الجميع فقالوا : هي قريبة ، منا ، وهما منا قريبتان ، كما قال عروة بن الورد :
عَشِيّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ***فَتَدْنُو وَلا عَفْراءُ مِنْكَ بَعِيدُ
فأنّث قريبة ، وذكّر بعيدا على ما وصفت . ولو كان القريب من القرابة في النسب لم يكن مع المؤنث إلاّ مؤنثا ومع الجمع إلاّ مجموعا . وكان بعض نحويي البصرة يقول : ذُكّر قريب وهو صفة للرحمة ، وذلك كقول العرب : ريح خريق ، وملحفة جديد ، وشاة سديس . قال : وإن شئت قلت : تفسير الرحمة ههنا المطر ونحوه ، فلذلك ذكر كما قال : وَإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا فذكّر لأنه أراد الناس ، وإن شئت جعلته كبعض ما يذكرون من المؤنث ، كقول الشاعر :
***وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَهَا ***
وقد أنكر ذلك من قيله بعض أهل العربية ، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكر قريبا توجيها منه للرحمة إلى معنى المطر أن يقول : هند قام ، توجيها منه لهند وهي امرأة إلى معنى إنسان ، ورأى أن ما شبه به قوله : إنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ بقوله : وإنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنوا غير مشبهة ، وذلك أن الطائفة فيما زعم مصدر بمعنى الطيف ، كما الصيحة والصياح بمعنى ، ولذلك قيل : وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ .
{ ولا تفسدوا في الأرض } بالكفر والمعاصي . { بعد إصلاحها } ببعث الأنبياء وشرع الأحكام . { وادعوه خوفا وطمعا } ذوي خوف من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم ، وطمع في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به للإجابة ، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب ، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو الذي هو مصدر كالنقيض ، أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره .