اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

يدخل فيه المنع من إفْسَادِ النُّفُوسِ بالقَتْلِ ، وقطع الأعضاء ، [ وإفساد الأموال بالنَّهْبِ ، والغصب ، والسَّرِقَةِ ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبِدَع ]{[16305]} وإفساد الإنسانِ بالزِّنَا واللِّواط والقَذْفِ ، وإفساد العقول بشرب المُنْكَرَاتِ ، فهذا النَّهْيُ يقتضي مَنْعَ إدخال ماهيَّة الفَسَادِ في الوُجُودِ بجميع أنْواعِهِ وأصنافه .

وقوله : " بَعْدَ إصلاحِهَا " يحتمل أنْ يكون المرادُ بعد أن صح خلقها على الوَجْهِ المطابق لمنافع الخَلْقِ ، ويحتمل أنْ يكون المرادُ بعد إصلاح الأرْضِ ببعثة الرُّسُلِ ، وإنزال الكُتُبِ ، وتفصيل الشَّرَائِع .

قوله : { وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً } .

هذانِ حالانِ ، أي : ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ ، أو خَائِفِينَ طامعين ، أو مَفْعُولان من أجلهما ، أي : لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ .

فإن قيل : قد قال في الآية الأولى : " ادْعُوا رَبَّكُمْ " ، ثم قال هاهنا : " وَادْعُوهُ " ، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه ، وهو باطل .

والجوابُ : أنَّ الَّذينَ فسروا قوله : " ادْعُوا رَبَّكُمْ " بأنَّ المرادَ به العِبادَة ، قالوا : المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه .

وأمّا الذين قالوا : المرادُ بقوله : " ادْعُوا رَبَّكُمْ " هو الدُّعَاءُ قالوا : المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلاً مقروناً بالتَّضَرُّع ، والأخْفَاءِ ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين .

فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء .

والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته .

قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ } إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبراً لمؤنث لوجوه :

منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ ، فحُمِلت عليه ، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ{[16306]} .

قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر : الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] ولم يقل : " مِنْهَا " ؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال .

ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف ، وبقيت صِفَتُهُ ، والتَّقديرُ : إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ .

ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر ، أو الرحم .

ومنها : أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ ، أي : ذات حيض .

ومنها : تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول ، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث كجريح ، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا : أسير وأسَرَاءُ ، وقبيل وقُبَلاء حَملاً على رَحِيمٍ ورحماء ، وعليهم وعُلَمَاء ، وحكيم وحُكماء .

[ ومنها : أنَّه ]{[16307]} مصدر [ جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع ، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدراً ]{[16308]} لَزِمَ الإفراد والتذكير .

ومنها : أنَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة ، قاله الكَرْمَانِيُّ ، وليس بجيد ؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد ، لا من المزيدِ فيه ، ومُقَرَّبة من المزيد فيه .

ومنها : أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي ، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس .

قال بعضهم : وهو غَيْرُ جَيِّدٍ ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّماً نحو : طلع الشَّمس ، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله : [ المتقارب ]

. . . *** وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا{[16309]}

قال شهابُ الدِّين{[16310]} : " وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان ، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر ، بل يجيزه في السَّعَةِ " .

وقال الفرَّاءُ{[16311]} : قريبةٌ وبعيدةٌ : إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه ، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون : فلانٌ قريبة مني أي في النَّسَبِ ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان ، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان ؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ : فلانة قريبة وقريبٌ ، وبعيدة وبعيد .

التَّقديرُ : هي في مكان قَريبٍ وبعيد ؛ وأنشد : [ الطويل ]

عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ *** فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ{[16312]}

فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج{[16313]} ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال : " هذا خطأ ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما " .

قال شِهَابُ الدِّين{[16314]} : وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة ، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ .

قال امْرُؤ القَيْسِ : [ الطويل ]

لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ *** قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا{[16315]}

وفي القرآن : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] .

وقال أبو عبيدة{[16316]} : " قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها ، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع ، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع ، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً " إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال : " لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك : " إنَّ زَيْداً قريباً منك " وهذا ليس بِخَطَأ ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ : زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف ، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو : " [ أن قريباً ] منك زيد " أن " قريباً " اسم " إنّ " ، و " زيدٌ " خبرها ، وذلك على الاتِّسَاع " .

و " مِنَ المُحْسِنِينَ " متعلِّقٌ ب " قَرِيبٍ " ، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا ، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل ، والإنسانُ في كلِّ ساعة ولحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي ، وقرباً من المُسْتَقْبَل .

قال الشِّاعِرُ : [ الطويل ]

فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ *** وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ{[16317]}

ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت ، لا جرم قال الله - تعالى - : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } .

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلةُ : العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [ فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين ]{[16318]} فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ .

والجوابُ : أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ{[16319]} .


[16305]:سقط من ب.
[16306]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/380.
[16307]:سقط من أ.
[16308]:سقط من ب.
[16309]:تقدم.
[16310]:ينظر: الدر المصون 3/30/283.
[16311]:معاني القرآن للفراء 1/380.
[16312]:البيت لعروة بن حزام العذري: ينظر: ديوانه 5، الخصائص 2/412، اللسان "قرب" الدر المصون 3/283.
[16313]:ينظر: معاني القرآن 2/381.
[16314]:ينظر: الدر المصون 3/283.
[16315]:تقدم.
[16316]:ينظر: مجاز القرآن 1/216.
[16317]:ينظر: الرازي 14/112.
[16318]:سقط من ب.
[16319]:ينظر/: تفسير الرازي 14/111.