الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

قوله تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } : حالان أي ادْعُوه ذوي خوف وطمع ، أو خائفين طامعين ، أو مفعولان من أجلهما أي : لأجل الخوف والطمع .

قوله : { قَرِيبٌ } إنما لم يؤنِّثها وإن كانت خبراً عن مؤنث لوجوه منها : أنها في معنى الغفران فحُمِلت عليه ، قاله النضر بن شميل واختاره أبو إسحاق . ومنها : أنها صفةٌ لموصوفٍ مذكر حذف وبقيت صفتُه ، والتقدير : إن رحمة الله شيء قريب . ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر أو الرحم . ومنها : أنها بمعنى النسب أي ذات قرب كحائض أي ذات حيض . ومنها : تشبيهُ فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث كجريح ، كما حُمِل هذا عليه حيث قالوا : أسير وأُسَراء ، وقبيل وقُبَلاء ، حَمْلاً على رحيم ورُحَماء وعليم وعُلَماء وحكيم وحُكَماء . ومنها : أنه مصدرٌ جاء على فعيل كالنَّقِيق وهو صوت الضفدع والضَّغيب وهو صوت الأرنب ، وإذا كان مصدراً/ لزم الإِفرادُ والتذكير . ومنها : أنها بمعنى مفعول أي مُقَرَّبة قاله الكرماني وليس بجيد ؛ لأن فعيلاً بمعنى مفعول لا ينقاس ، وعلى تقدير اقتياسه فإنما يكون من الثلاثي المجرد لا من المزيد فيه ، ومُقَرَّبة من المزيد فيه . ومنها : أنه من باب المؤنث المجازي فلذلك جاز التذكيرُ كطلع الشمس . قال بعضهم : " وهو غيرُ جيد لأن ذلك حيث كان الفعل متقدماً نحو : طلع الشمس ، أما إذا تأخر وَجَبَ التأنيثُ إلا في ضرورة شعر كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . *** ولا أرضَ أبقلَ إبقالها

قلت : وهذا يجيء على مذهب ابن كيسان فإنه لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشعر بل يُجيزه في السَّعة . وقال الفراء : " قريبة وبعيدة : إمَّا أن يُراد بها النسبُ وعدمُه فتؤنثها العرب ليس إلا ، فيقولون : فلانةٌ قريبةٌ مني أي في النسب ، وبعيدةٌ مني أي في النسب ، أمَّا إذا أريد القربُ في المكان فإنه يجوز الوجهان ؛ لأن قريباً وبعيداً قائمٌ مقام المكان فتقول : فلانةٌ قريبةٌ وقريب ، وبعيدة وبعيد . التقدير : هي في مكانٍ قريبٍ وبعيد . وأنشد :

عشيَّةَ لا عفراءُ منك قربيةٌ *** فَتَدْنو ولا عفراءُ منك بعيدُ

فجمع بين اللغتين . إلا أنَّ الزجاج ردَّ على الفراء قوله وقال : " هذا خطأ لأنَّ سبيلَ المذكر والمؤنث أن يجريا على أَفْعالهما " قلت : " وقد كَثُر في شعر العرب مجيءُ هذه اللفظةِ مذكرةً وهي صفة لمؤنث قال امرؤ القيس :

له الويلُ إن أمسى ولا أمُّ سالمٍ *** قريبٌ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يشكرا

وفي القرآن { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] وقال أبو عبيدة : " قريب في الآية ليس وصفاً لها ، إنما هو ظرفٌ لها وموضع ، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع ، فإن أريد بها الصفةُ وَجَبَت المطابقةُ ، ومثلُها لفظةُ " بعيد " أيضاً " . إلا أنَّ عليَّ بن سليمان الأخفش خطَّأه قال : " لأنه لو كانت ظرفاً لانتصَبَ كقولك : " إن زيداً قريباً منك " . وهذا ليس بخطأ لأنه يجوز أن يُتَّسعَ في الظرف فيعطى حكمَ الأسماء الصريحة فتقول : زيدٌ أمامُك وعمروٌ خلفُك برفع أمام وخلف ، وقد نصَّ النحاة على أنَّ نحو " إن قريباً منك زيد " أن " قريباً " اسم إنَّ ، و " زيدٌ " خبرها ، وذلك على الاتِّساع . و " من المحسنين " متعلقٌ ب " قريب " .