فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

قوله : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إصلاحها } نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه ، قليلاً كان أو كثيراً ، ومنه قتل الناس ، وتخريب منازلهم ، وقطع أشجارهم ، وتغوير أنهارهم . ومن الفساد في الأرض : الكفر بالله ، والوقوع في معاصيه ، ومعنى { بَعْدَ إصلاحها } : بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وتقرير الشرائع .

قوله : { وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا } إعرابهما يحتمل الوجهين المتقدمين في { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } . وفيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه . فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ، ظفر بمطلوبه . والخوف : الانزعاج من المضارّ التي لا يؤمن من وقوعها . والطمع : توقع حصول الأمور المحبوبة .

قوله : { إِنَّ رَحْمَت الله قَرِيبٌ مّنَ المحسنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين ، بأيّ نوع من الأنواع كان إحسانهم . وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله .

وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر " رحمة الله " ، حيث قال { قريب } ولم يقل قريبة ، فقال الزجاج : إن الرحمة مؤوّلة بالرحم ، لكونها بمعنى العفو والغفران . ورجح هذا التأويل النحاس . وقال النضر بن شميل : الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحق المصدر التذكير . وقال الأخفش سعيد : أراد بالرحمة هنا المطر ، وتذكير بعض المؤنث جائز ، وأنشد :

فلا مزنة ودقت ودقها *** ولا أرض أبقل أبقالها

وقال أبو عبيدة : تذكير قريب على تذكير المكان : أي مكان قريب . قال علي بن سليمان الأخفش : وهذا خطأ ، ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً كما تقول : إن زيداً قريباً منك . وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة ، فيذكر ويؤنث ، وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم .

وروي عن الفراء أنه قال : يقال في النسب قريبة فلان ، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث فيقال : دارك عنا قريب ، وفلانة منا قريب . قال الله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } ومنه قول امرئ القيس :

لك الويل أن أمسى ولا أمّ هاشم *** قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال : إن سبيل المذكر والمؤنث ، أن يجريا على أفعالهما . وقيل : إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي ، جاز في خبرها التذكير ، ذكر معناه الجوهري .

/خ58