فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين 56 } .

{ ولا تفسدوا في الأرض } نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلا كان أو كثيرا ، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم ، ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه { بعد إصلاحها } أي بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي ، وقيل بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب .

{ وادعوه خوفا وطمعا } فيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفا وجلا طامعا في إجابة الله لدعائه ، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعا بين الخوف والرجاء ظهر بمطلوبه ، قال القرطبي : أمرنا الله تعالى بأن يكون العبد وقت الدعاء في حال ترقب وتخوف وأمل في الله حتى يكون الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته ، وإذا انفرد أحدهما هلك الإنسان فيدعو الإنسان خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه .

والخوف الانزعاج في الباطن من المضار التي لا يؤمن من وقوعها وقيل توقع مكروه فيما بعد والطمع توقع حصول الأمر المحبوب في المستقبل قال ابن جريج : معناه خوف العدل وطمع الفضل وقيل خوفا من الرياء وطمعا في الإجابة .

قال بعض أهل العلم : ينبغي للعبد أن يغلب الخوف حال حياته فإذا جاء الموت غلب الرجاء قال صلى الله عليه وآله وسلم : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ، أخرجه مسلم{[763]} ، والآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والثانية في بيان فائدة الدعاء .

{ إن رحمة الله قريب من المحسنين } هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم ، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم ، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله .

وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال { قريب } ولم يقل قريبة فقال الزجاج : إن رحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران ، ورجح هذا التأويل النحاس .

وقال المضر بن شميل الرحمة مصدر بمعنى الترحم ، وحق المصدر التذكير ، وقال الأخفش : أراد بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز . وقال أبو عبيدة : المعنى مكان قريب .

قال علي بن سليمان الأخفش : وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا ، وقال الفراء : إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم ، وروي عن الفراء أنه قال : في النسب قريبة فلان وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث يقال دارك منا قريب ، وفلانة منا قريب ، قال الله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } .

وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال : إن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما ، وقيل : إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير ، ذكر معناه الجوهري ، وأصل الرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في مجرد الرقة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة . وإذا وصف بها الباري يراد بها الإحسان فقط .

وقيل هي إرادة إيصال الخير والنعمة على عباده ، فعلى الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى الثاني من صفات الذات ، قال سعيد بن جبير : الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ .


[763]:مسلم / 2877.