قوله تعالى : { فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } ، يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله عز وجل في الأرض ، { بغير الحق } ، أي : بالفساد . { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } ، لأن وباله راجع عليها ، ثم ابتدأ فقال : { متاع الحياة الدنيا } ، أي : هذا متاع الحياة الدنيا ، خبر ابتداء مضمر ، كقوله : { لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغ } [ الأحقاف-35 ] ، أي : هذا بلاغ . وقيل : هو كلام متصل ، والبغي : ابتداء ، ومتاع : خبره . ومعناه : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، لا يصلح زادا لمعاد لأنكم تستوجبون به غضب الله . وقرأ حفص : " متاع " بالنصب ، أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } .
وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج ، وتهدأ الأنفاس اللاهثة ، وتسكن القلوب الطائرة ، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ ، ويوقن الناس بالحياة ، وأرجلهم مستقرة على اليابسة . فماذا ?
( فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ! ) . .
إنه مشهد كامل ، لم تفتنا منه حركة ولا خالجة . . مشهد حادث . ولكنه مشهد نفس ، ومشهد طبيعة ومشهد نموذج بشري لطائفة كبيرة من الناس في كل جيل . ومن ثم يجيء التعقيب تحذيرا للناس أجمعين :
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) . .
سواء كان بغيا على النفس خاصة ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاسر بالمعصية ؛ أو كان بغيا على الناس فالناس نفس واحدة . على أن البغاة ومن يرضون منهم البغي يلقون في أنفسهم العاقبة
والبغي لا يتمثل في أبشع ولا أشنع من البغي على ألوهية الله سبحانه ، واغتصاب الربوبية والقوامة والحاكمية ومزاولتها في عباده .
والناس حين يبغون هذا البغي يذوقون عاقبته في حياتهم الدينا ، قبل أن يذوقوا جزاءه في الدار الآخرة .
يذوقون هذه العاقبة فسادا في الحياة كلها لا يبقى أحد لا يشقى به ، ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا حرية ولا فضيلة لا تضار به .
إن الناس إما أن يخلصوا دينونتهم لله . وإما أن يتعبدهم الطغاة . والكفاح لتقرير ألوهية الله وحدها في الأرض ، وربوبية الله وحدها في حياة البشر ، هو كفاح للإنسانية وللحرية وللكرامة وللفضيلة ، ولكل معنى كريم يرتفع به الإنسان على ذل القيد ، ودنس المستنقع ، وامتهان الكرامة ، وفساد المجتمع ، ودناءة الحياة !
( يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم . . متاع الحياة الدنيا ) . .
( ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .
فهو حساب الآخرة وجزاؤها كذلك ، بعد شقوة الدنيا وعذابها ابتداء .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ } أي : من تلك الورطة { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : كأن لم يكن من ذاك شيء{[14153]} { كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون{[14154]} به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث : " ما من ذنب أجدر{[14155]} أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يَدخر{[14156]} الله لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " . {[14157]}
وقوله : { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ } أي : مصيركم ومآلكم{[14158]} { فننبئكم } أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم{[14159]} إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ مّتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا في البحر أنهم أحيط بهم من الجهد الذي كانوا فيه ، أخلفوا الله ما وعدوه ، وبغوا في الأرض ، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه من الكفر به والعمل بمعاصيه على ظهرها . يقول الله : يا أيها الناس إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم وإياها تظلمون ، وهذا الذي أنتم فيه مَتَاعَ الحَيَاةِ الدّنْيَا يقول : ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم . وعلى هذا التأويل ، البغي يكون مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : عَلى أنْفُسِكُمْ ويكون قوله : «مَتَاعُ الحَياةِ الدّنْيَا » مرفوعا على معنى : ذلك متاع الحياة الدنيا ، كما قال : لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ ساعَةً مِن نَهار بلاغٌ بمعنى : هذا بلاغ ، وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم ، لأنكم بكفركم تكسبونها غضب الله ، متاع الحياة الدنيا ، كأنه قال : إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا ، فيكون «البغي » مرفوعا بالمتاع ، و «على أنفسكم » من صلة «البغي » . وبرفع «المتاع » قرأت القّراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق فإنه نصبه بمعنى : إنما بغيكم على أنفسكم متاعا في الحياة الدنيا ، فجعل ، «البغي » مرفوعا بقوله : على أنفُسِكُمْ والمتاع منصوبا على الحال . وقوله : ثُمّ إلَيْنا مَرّجِعُكُمْ يقول : ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم ، وذلك بعد الممات . فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله ، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.