( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون ) . .
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتب كل شيء ، ويجرف كل شيء . ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على نظافة ، فتمد وتكبر حتى حين :
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ، فيحمل في السفينة بذور الحياة : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) . . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني الإنسان ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم )وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ، وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .
( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .
فسنة الله لا تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب !
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه دعا ربه يستنصره على قومه ، كما قال تعالى مخبرا [ عنه ]{[20537]} في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، وقال هاهنا : { [ قَالَ ]{[20538]} رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار ، وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله ، كابنه وزوجته ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي : عند معاينة إنزال المطر العظيم ، لا تأخذنك رأفة بقومك ، وشفقة عليهم ، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان . وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة " هود " {[20539]} بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا .
وقوله : فأَوْحَيْنا إلَيْهِ أنه اصْنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُنِنا وَوَحْينا يقول : فقلنا له حين استنصرَنا على كَفَرة قومه : اصنع الفُلْك ، وهي السفينة بأَعْيُنِنا يقول : بمرأى ومنظر ، ووَحْينَا يقول : وبتعليمنا إياك صنعتها . فإذَا جاء أمْرُنا يقول : فإذا جاء قضاؤنا في قومك ، بعذابهم وهلاكهم وَفارَ التّنّورُ ، وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة فور التنور ، والصواب عندنا من القول فيه بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . فاسْلُكْ فِيها مِنْ كلَ زَوْجِيْنِ اثْنَيْنِ يقول : فأدخل في الفلك واحمل . والهاء والألف في قوله : فيها من ذكر الفلك . منْ كُلَ زَوْجِيْنِ اثْنَينِ يقال سلكته في كذا وأسلكته فيه ومن سلكته قوم الشاعر :
وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرّدْ *** وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ
وبعضهم يقول : أسلكت بالألف ومنه قولي الهُذَليّ :
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ *** شَلاّ كمَا تَطْرُدِ الجّمّالَةُ الشّرُدَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يقول لنوح : اجعل في السفينة من كل زوجين اثنين .
وأهْلَكَ وهم ولده ونساؤهم : إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ من الله بأنه هالك فيمن يهلك من قومك فلا تحمله معك ، وهو يام الذي غرق . ويعني بقوله : مِنْهُمْ مِن أهلك ، والهاء والميم في قوله «منهم » من ذكر الأهل . وقوله : وَلا تخاطِبْنِي . . . الاَية ، يقول : ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم . إنّهُمْ مُغْرَقُونَ يقول : فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.