الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

{ بِأَعْيُنِنَا } بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه من الله حفاظاً يكلؤونه بعيونهم ، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله . ومنه قولهم : عليه من الله عين كالئة { وَوَحْيِنَا } أي نأمرك كيف تصنع ونعلمك . روي أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر . روي أنه قيل لنوح عليه السلام : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب . وقيل : كان تنور آدم عليه السلام ، وكان من حجارة ، فصار إلى نوح . واختلف في مكانه ، فعن الشعبي : في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد . وقيل : بالشام بموضع يقال له : عين وردة . وقيل : بالهند . وعن ابن عباس رضي الله عنه : التنور وجه الأرض . وعن قتادة : أشرف موضع في الأرض ، أي أعلاه . وعن علي رضي الله عنه : فار التنور : طلع الفجر . وقيل : معناه أن فوران التنور كان عند تنوير الفجر . وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس . والقول هو الأوّل . يقال : سلك فيه : دخله . وسلك غيره ، وأسلكه . قال :

حَتَّى إذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدِه ِ***

{ مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ } من كلّ أمتي زوجين ، وهما أَمة الذكر وأمّة الأنثى ، كالجمال ، والنوق ، والحصن والرماك { اثنين } واحدين مزدوجين ، كالجمل والناقة ، والحصان والرمكة : روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض . وقرىء : «من كل » بالتنوين ، أي : من كل أمّة زوجين . واثنين : تأكيد وزيادة بيان .

جيء بعلى مع سبق الضارّ ، كما جيء باللام مع سبق النافع . قال الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] ، { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] ، ونحو قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] وقول عمر رضي الله عنه : ليتها كانت كفافاً ، لا عليَّ ولا لي .

فإن قلت : لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة ؟ قلت : لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين ، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة ، لما عرف من المصلحة في إغراقهم ، والمفسدة في استبقائهم ، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ، ولزمتهم الحجّة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين .