قوله عز وجل :{ وقالوا آمنا به } حين عاينوا العذاب ، قيل : عند اليأس . وقيل : عند البعث . { وأنى } من أين ، { لهم التناوش } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : التناوش بالمد والهمزة ، وقرأ الآخرون بواو صافية من غير مد ولا همز ، ومعناه التناول ، أي : كيف لهم تناول ما بعد عنهم ، وهو الإيمان والتوبة ، وقد كان قريباً في الدنيا فضيعوه ، ومن همز قيل : معناه هذا أيضاً . وقيل التناؤش بالهمزة من النيش وهو حركة في إبطاء ، يقال : جاء نبشاً أي : مبطئاً متأخراً ، والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه ، وعن ابن عباس قال : يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا . { من مكان بعيد } أي : من الآخرة إلى الدنيا .
{ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ } أي : يوم القيامة يقولون : آمنا بالله وبكتبه ورسله{[24416]} ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : وكيف لهم تعاطي{[24417]} الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة ، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء ، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان ، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد .
قال مجاهد : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ } قال : التناول لذلك .
وقال الزهري : التناوش : تناولهم الإيمان وهم في الآخرة ، وقد انقطعت عنهم الدنيا .
وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد .
وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه ، وليس بحين{[24418]} رجعة ولا توبة . وكذا قال محمد بن كعب القرظي ، رحمه الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله آمنا به ، يعني : آمنا بالله وبكتابه ورسوله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ قالوا : آمنا بالله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا آمَنّا بِهِ عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وقوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : ومن أيّ وجه لهم التناوش .
واختلفت قرّاء الأمصار في ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة التّناوُشُ بغير همز ، بمعنى : التناول وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة : «التّناؤُشُ » بالهمز ، بمعنى : التنؤّش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ، ونشته : أخذته من قريب ومن التنؤّش قول الشاعر :
تَمَنّى نَئِيشا أنْ يكُونَ أطاعَنِي *** وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ
فَهْيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشا مِنْ عَلا *** نَوْشا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا
ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى بعض بالرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل ذلك ، فقال الله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ أي وأين لهم التوبة والرجعة : أي قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها وإنما وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا ذلك في القيامة ، فقال الله : أني لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الاَخرة ، فبأية القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك .
وقد يجوز أن يكون الذين قرؤوا ذلك بالهمز همزوا ، وهم يريدون معنى من لم يهمز ، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ فجعلت الواو من وُقتت ، إذا كانت مضمومة همزوه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : يسألون الردّ ، وليس بحين ردّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس نحوه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : فكيف لهم بالردّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : الردّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : التناول مِنْ مَكانٍ بَعيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : هؤلاء قتلى أهل بدر من قتل منهم ، وقرأ : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَد فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنّا بِهِ . . . الاَية ، قال : التناوش : التناول ، وأنّى لهم تناول التوبة من مكان بعيد ، وقد تركوها في الدنيا ، قال : وهذا بعد الموت في الاَخرة .
قال : وقال ابن زيد في قوله وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ وقرأ : وَلا الّذِينَ يَمُوتونَ وَهُمْ كُفّارٌ قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرّة واحدة ، فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت ، قال : فهم يعرضونها في الاَخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم قال : والتائب عند الموت ليست له توبة وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا على النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا . . . الاَية ، وقرأ : رَبّنا أبْصَرْنا وَسمعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحا إنّا مُوقِنُونَ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : وأنى لهم الرجعة .
وقوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقول : من آخرتهم إلى الدنيا ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من الاَخرة إلى الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.