اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (52)

قوله : { وقالوا آمَنَّا بِه } أي عند اليأس . والضمير في «به »{[44894]} لله{[44895]} أو للرسول{[44896]} أو للقرآن{[44897]} أو للعذاب أو للبعث{[44898]} و «أَنّى لَهُمْ » أي من أين لهم أي كيف يقدرون على الظَّفَرِ بالمطلوب وذلك لا يكون إلاَّ في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة{[44899]} .

فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إنَّ الآخِرَةَ من الدنيا قريبة وسمى الله الساعة قريبة فقال : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] .

فالجواب : أن الماضي كالأمس الدابر وهو أبعد ما يكون ؛ إذ لا وصولَ إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آتٍ فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيِّها ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه{[44900]} .

قوله : { التناوش } مبتدأ و «أنَّى » خَبَرهُ ، أي كيف لهم التناوش و «لَهُم » حال ، ويجوز أن يكون «لهم » رافعاً للتناوش لاعتماده على الاستفهام تقديره كيف استقر لهم التناوش ؟ وفيه بعد{[44901]} ، والتناوش مهموز في قراءة الأخوين وأبي عمرو ، وأبي{[44902]} بكر وبالواو في قراءة غيرهم ، فيحتمل أن يكونا مادتين مستقلتين مع اتّحاد معناهما{[44903]} ، وقيل : الهمزة عن الواو لانضمامها كوُجُوهٍ وأُجُوه ، ووُقّتت وأُقِّتَتْ وإليه ذهب جماعة كثيرةٌ كالزَّجّاج{[44904]} والزَّمخْشَري{[44905]} وابن عطية{[44906]} والحَوْفي{[44907]} وأبي البقاء{[44908]} قال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت فيها بالخيار{[44909]} ، وتابعه الباقون{[44910]} قريباً من عبارته .

وردَّ أبو حيانَ هذا الإطلاق وقيده بأنه لا بدّ أن تكون الواو غير مدغم فيها تحرزاً من التعوذ وأن تكون غير مصححة في الفعل فإنها متى صحت في الفعل لم تبدل همزة نحو : تَرَهُوَكَ تَرَهْوُكاً ، وتَعَاوَنَ تَعَاوُناً . وهذا القيد الآخر يبطل قولهم لأنها صحت في : «تَنَاوَشَ يَتَنَاوَشُ » ، ومتى سلم له هذان القيدان أو الأخير منهما ثَبَتَ رده{[44911]} . والتَّنَاوُشُ الرجوعُ ، قال :

4143- تَمَنَّى أَنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ . . . وَلَيْسَ إلى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ{[44912]}

أي إلى رجوعها . وقيل : هو التناول يقال : نَاشَ كذا أي تَنَاوَلَهُ ومنه تَنَاوشَ القَوْمُ بالسِّلاح{[44913]} كقوله :

4144- ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أبِيهِ تَنُوشُهُ . . . لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تَشَقَّقُ{[44914]}

وقال آخر :

4145- وهي تَنُوشُ الْحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلاَ . . . نَوْشاً به تقطَع أجْوَازَ الفَلاَ{[44915]}

وفرق بعضهم بين المهموز وغيره فجعل المهموز بمعنى التأخير . وقال الفراء : من نَأَشْتُ أي تَأَخَّرْتُ{[44916]} . وأنشد :

4146- تَمَنَّى نَئِيشاً أَنْ يَكُونَ مُطَاعُنَا . . . وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أُمُورُ{[44917]}

وقال آخر :

4147- قَعَدْتَ زَمَاناً عَنْ طِلاَبِكَ لْلعُلاَ . . . وَجِئْتَ نَئِيشاً بَعْدَ مَا فَاتَكَ الخَيْرُ{[44918]}

وقال الفراء أيضاً : هما متقاربان يعني الهمزة وتركها مثل ذِمْتُ الشيء وذَأَمْتُهُ أي عِبْتُهُ{[44919]} وانْتَاشَ انِتْيَاشاً كَتَنَاوَشَ وقال :

4148- كَانَتْ تَنُوشُ العنق انْتِيَاشا{[44920]} . . .

وهذا مصدر على غير المصدر{[44921]} ، و «مِنْ مَكَانٍ » متعلق بالتَّنَاوُشِ .

فصل{[44922]}

المعنى كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيّعوه وهذا على قراءة من لم يهمز وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً . وقيل : التناوش بالهمز من النَّيْشِ وهي حركة في إبطاء ، يقال : جاء نيْشاً أي مُبْطِئاً متأخراً والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه{[44923]} .

قال ابن عباس : يسألون الرد فيقال : وأنَّى لهم الردُّ إلى الدنيا «من مكان بعيد » أي من الآخرة إلى الدنيا{[44924]} .


[44894]:انظر هذه الأقوال في القرطبي 14/315.
[44895]:وهو قول مجاهد.
[44896]:وهو قول قتادة.
[44897]:قاله القرطبي 14/315.
[44898]:وهو قول الحسن رضي الله عنه.
[44899]:قاله الرازي 25/271.
[44900]:الرازي المرجع السابق.
[44901]:قاله شهاب الدين في الدر المصون 4/457.
[44902]:من القراءات المتواترة. قاله مكي في الكشف 2/208 وابن الجزري في النشر 2/351 وتقريبه 162 وابن خالويه في الحجة 295 وانظر التبيان 1071 والبيان 2/284 ومعاني الفراء 2/365 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/259 وإعراب النحاس 3/356، ومشكل الإعراب لمكي 2/213 وتفسير القرطبي 14/316 والكشاف 3/296.
[44903]:البحر المحيط 7/294 والدر المصون 4/457.
[44904]:معاني القرآن وإعرابه 4/259.
[44905]:الكشاف 3/296.
[44906]:البحر المحيط 7/294.
[44907]:المرجع السابق.
[44908]:التبيان 1071 وقال النحاس في الإعراب 3/356: "والقراءة جائزة حسنة ولها وجهان في كلام العرب ولا يتناول بها هذا المتناول البعيد فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية وذلك كثير في كلام العرب والوجه الآخر أن يكون مشتقا من النئيش، وهو الحركة في إبطاء". إعراب النحاس 4/356.
[44909]:قال: "إن شئت أبدلت منها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك أدور وتقاوم". انظر معاني القرآن وإعرابه 4/259.
[44910]:من هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه "إعراب القرآن" المرجع السابق.
[44911]:هذا رد أبي من أبي حيان على الزجاج. والصحيح ما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج حيث إن السماع يؤيده وكلا المعنيين قريبان من بعضهما.
[44912]:من الوافر وهو مجهول وشاهده: "تناوشها" فإنه بمعنى رجوعها. والبيت في البحر 7/294 والقرطبي 14/316 والدر المصون 4/458.
[44913]:قاله الفراء في المعاني 2/365 والزمخشري في الكشاف 3/296.
[44914]:من الكامل وينسب لقتيلة أخت النضر بن الحارث. وشاهده: "تنوشه" والمعنى: تأخذه وتتناوله فهذا شاهد آخر على أن التناوش بمعنى التناول. وانظر : اللسان: "ن و ش" 4576، والدر المصون 4/458 والبداية والنهاية للحافظ أبي الفداء ابن كثير 3/306.
[44915]:البيت من الرجز لغيلان بن حريث والشاهد: "تنوش نوشا" بمعنى تناولا فهو شاهد على أن التناوش هو التناول كما سبق في البيتين السابقين. والبيت في وصف الإبل بأنها طويلة الأعناق وأنها تصبر على العطش. والبيت في الطبري 22/74 ومعاني الفراء 2/365 والبيان 2/384 والكتاب 3/453 وابن يعيش 4/573 وحجة القراءات لابن خالويه 195 ومجمع البيان 7/621 ومجاز القرآن 2/150 والقرطبي 14/316 واللسان: "ن و ش" 4576.
[44916]:المعاني 2/365 قال: "يجعلونه من الشيء البطيء من نأشت من النئيش".
[44917]:من الطويل وقد نسبه في اللسان إلى نهشل بن حري. وهو في الطبري 22/74 بلفظ "أطاعني" وهو في حكاية التحسر. وشاهده استعمال لفظ "نئيش" بمعنى التأخر. وانظر: القرطبي 14/316، ومعاني الفراء 2/365 والبيان 2/284 والدر المصون 4/459 والبيضاوي 2/143 واللسان نأش 4313. ومجمع البيان للطبرسي 7/621.
[44918]:من الطويل كسابقه وشاهده كسابقه أيضا حيث استعمل النئيش بمعنى التأخر والبطء. وهو مجهول القائل. وانظر : فتح القدير للشوكاني 4/336 والبحر 7/256 ومادة "نوش" من اللسان 4575 والفراء 2/365 والدر المصون 4/459 والقرطبي 14/316 و 317.
[44919]:قاله في معانيه 2/365.
[44920]:هكذا هو في اللسان: "ن و ش" 4575 لابن منظور. وهو رجز مجهول قائله. وشاهده : أن معنى الانتياش والتناوش متقارب. ورواه في اللسان: باتت تنوش العنق انتياشا بلفظ "باتت" بدلا من : كانت وانظر: القرطبي 14/316 و 317 والدر 4/459.
[44921]:فإن مصدر الثلاثي معروف فما دام قال تنوش فكان من القياس أن يقول نوشا أو نيشا ولكنه قال انتياشا. قال في اللسان: ناشه بيده ينوشه نوشا: تناوله . اللسان: ن و ض.
[44922]:زيادة من "ب".
[44923]:نقل كل ما سبق البغوي في معالم التنزيل 5/296.
[44924]:المرجع السابق.