قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } . قرأ أهل الحجاز والكسائي " السلم " ها هنا بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وفي سورة الأنفال بالكسر ، وقرأ أبو بكر والباقون بالفتح ، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة و أبو بكر .
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام النضيري وأصحابه ، وذلك أنهم كانوا يعظمون السبت ، ويكرهون لحوم الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم في صلاتنا بالليل ؟ فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) أي في الإسلام ، قال مجاهد : في أحكام أهل الإسلام و أعمالهم كافة ، أي جميعاً ، وقيل : ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافين عن المجاوزة إلى غيره .
وأصل السلم : السلم من الاستسلام والانقياد ، ولذلك قيل للصلح سلم ، قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والعمرة ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال : قد خاب من لا سهم له .
قوله تعالى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } . أي : آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغيره .
قوله تعالى : { إنه لكم عدو مبين } . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس الطحان ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش ، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي ، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، أخبرنا هاشم ، أخبرنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال : إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا ، أفترى أن نكتب بعضها فقال : " امتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيه ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
وفي ظلال هاتين اللوحتين المشخصتين لنموذج النفاق الفاجر ، ونموذج الإيمان الخالص . يهتف بالجماعة المسلمة ، باسم الإيمان الذي تعرف به ، للدخول في السلم كافة ، والحذر من اتباع خطوات الشيطان ، مع التحذير من الزلل بعد البيان .
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . فإن زللتم ، من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله عزيز حكيم )
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان . بهذا الوصف المحبب إليهم ، والذي يميزهم ويفردهم ، ويصلهم بالله الذي يدعوهم . . دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . .
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم ، وفي الصغير والكبير من أمرهم . أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور ، ومن نية أو عمل ، ومن رغبة أو رهبة ، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه . استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية . الاستسلاملليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد ؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير ، في الدنيا والآخرة سواء .
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن . وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية . . وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ؛ ليخلصوا ويتجردوا ؛ وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم ، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم ، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت .
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام . عالم كله ثقة واطمئنان ، وكله رضى واستقرار . لا حيرة ولا قلق ، ولا شرود ولا ضلال . سلام مع النفس والضمير . سلام مع العقل والمنطق . سلام مع الناس والأحياء . سلام مع الوجود كله ومع كل موجود . سلام يرف في حنايا السريرة . وسلام يظلل الحياة والمجتمع . سلام في الأرض وسلام في السماء .
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ، ونصاعة هذا التصور وبساطته . . إنه إله واحد . يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه ؛ فلا تتفرق به السبل ، ولا تتعدد به القبل ؛ ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح .
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر . . فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود . وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح . ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا ، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر . ولم يعد يخشى فوت شيء . ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء .
وهو إله عادل حكيم ، فقوته وقدرته ضمان من الظلم ، وضمان من الهوى ، وضمان من البخس . وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات . ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد ، ينال فيه العدل والرعاية والأمان .
وهو رب رحيم ودود . منعم وهاب . غافر الذنب وقابل التوب . يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . فالمسلم في كنفه آمن آنس ، سالم غانم ، مرحوم إذا ضعف ، مغفور له متى تاب . .
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ؛ فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه ، وما يطمئن روحه ، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام . .
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب . وبين الخالق والكون . وبين الكون والإنسان . . فالله خلق هذا الكون بالحق ؛ وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة . وهذا الإنسان مخلوق قصدا ، وغير متروك سدى ، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده ، ومسخر له ما في الأرض جميعا . وهو كريم على الله ، وهو خليفته في أرضه . والله معينه على هذه الخلافة . والكون من حوله صديق مأنوس ، تتجاوب روحه مع روحه ، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه . وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به . وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجودالكبير ، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان ! والذي يؤلفون كلهم هذا المهرجان !
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة ، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش ، وحين يعينها على النماء ، وحين يزيل من طريقها العقبات . . هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة . عقيدة تسكب في روحه السلام ؛ وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ؛ ويشيع من حوله الأمن والرفق ، والحب والسلام .
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ؛ ونفي القلق والسخط والقنوط . . إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض ؛ والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة . . إن الحساب الختامي هناك ؛ والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب . فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه . ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس ، فسوف يوفاه بميزان الله . ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد ، فالعدل لا بد واقع . وما الله يريد ظلما للعباد .
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات . بلا تحرج ولا حياء . فهناك الآخرة فيها عطاء ، وفيها غناء ، وفيها عوض عما يفوت . وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة ؛ وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين ؛ وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود !
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة ، وأنه مخلوق ليعبد الله . . من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء . ترفع شعوره وضميره ، وترفع نشاطه وعمله ، وتنظف وسائله وأدواته . فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله ؛ وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه ؛ وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها . فأولى به ألا يغدر ولا يفجر ؛ وأولى به ألا يغش ولا يخدع ؛ وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر ؛ وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة . وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل ، وألا يعتسف الطريق ، وألا يركب الصعب من الأمور . فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة . . ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع ، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق . فهو يعبد في كل خطوة ؛ وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة ، وهو يرتقي صعدا إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال .
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله ، في طاعة الله ، لتحقيق إرادة الله . . وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار ؛ والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق ؛ وبلا قنوط من عون الله ومدده ؛ وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء . . ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه . فهو إنما يقاتل لله ، وفي سبيل الله ، ولإعلاء كلمة الله ؛ ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة .
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله . قانونه قانونه ، ووجهته وجهته . فلا صدام ولا خصام ، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة . وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته ، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به ، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله .
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة . لا تتجاوز الطاقة ؛ ولاتتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ؛ ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ؛ ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء . . ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه . يحمل منها ما يطيق حمله ، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام .
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني ، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة ، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال . . كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام .
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق . هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره . ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب ، تختلف درجة صفائه ، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر ، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية !
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان ، واللغات والألوان ، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان . .
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له : ( إنما المؤمنون إخوة ) . . والذي يرى صورته في قول النبي الكريم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
هذا المجتمع الذي من آدابه : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) . . ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ، إن الله لا يحب كل مختال فخور ) . . ( ادفع بالتي هي أحسن - فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) . . ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . . ( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .
هذا المجتمع الذي من ضماناته : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . . ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ) . ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . . و . . " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله " . .
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ؛ ولا يتبجح فيه الإغراء ، ولا تروج فيه الفتنة ، ولا ينتشر فيه التبرج ، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات ، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات ، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا . . هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة ، والذي يسمع الله - سبحانه - يقول :
( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . . ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ؛ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) . . ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون ) ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ، أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ، أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) . . والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن . فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا . وقرن في بيوتكن ، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة ، وأطعن الله ورسوله . إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) . .
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها ، ويأمن الزوج على زوجته ، ويامن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم ، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم . حيث لا تقع العيون على المفاتن ، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم . فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب . . بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن ، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان !
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا ، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم ، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة ، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لو مات فيهم جائع ؛ حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية .
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع ، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع . فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة ، ولا يتسور على أحد بيته ، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس ، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ؛ ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة .
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون . كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم ، و لا هوى حاشية ، ولا قرابة كبير .
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية ، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر . إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته ؛ وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته . فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين . .
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة . ليسلموا أنفسهم كلها لله ؛ فلا يعود لهم منها شيء ، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ ؛ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقيادوفي تسليم . .
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان ، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام ، أو التي عرفته ثم تنكرت له ، وارتدت إلى الجاهلية ، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان . . هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري ، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين .
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو " السويد " . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام . وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات . وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان ، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت . . وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب . .
ولكن ماذا ؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله ؟
إنه شعب مهدد بالانقراض ، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط ! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط ! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ؛ ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة . والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب . . ثم الانتحار . . والحال كهذا في أمريكا . . والحال أشنع من هذا في روسيا . .
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة . فلا يذوق طعم أسلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة ، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار :
( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . ولا تتبعوا خطوات الشيطان . إنه لكم عدو مبين ) . .
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة . . حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان . فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان . إما الدخول في السلم كافة ، وإما اتباع خطوات الشيطان . إما هدى وأما ضلال . إما إسلام وإما جاهلية . إما طريق الله وإما طريق الشيطان . وإما هدى الله وإما غواية الشيطان . . وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه ، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات .
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها ، أو يخلط واحدا منها بواحد . . كلا ! إنه من لا يدخل في السلم بكليته ، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته ، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر . . إن هذا في سبيل الشيطان ، سائر على خطوات الشيطان . .
ليس هنالك حل وسط ، ولا منهج بين بين ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك ! إنما هناك حق وباطل . هدى وضلال . إسلام وجاهلية . منهج الله أو غواية الشيطان . والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ؛ ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان . ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم ، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم ، تلك العداوة الواضحة البينة ، التي لا ينساها إلا غافل . والغفلة لا تكون مع الإيمان .
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدّقين برسوله : أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والضحاك ، وعكرمة ، وقتادة ، والسُّدّي ، وابن زيد ، في قوله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الإسلام .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيعُ بن أنس : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } يعني : الطاعة . وقال قتادة أيضًا : الموادعة .
وقوله : { كَافَّةً } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والربيع ، والسّدي ، ومقاتل بن حَيَّان ، وقتادة والضحاك : جميعًا ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر .
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم ، كعبد الله بن سلام ، وثعلبة وأسَد بن عُبَيد وطائفة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُسْبتوا ، وأن يقوموا بالتوراة ليلا . فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها . وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذْ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت ، وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه ، والتعويض عنه بأعياد الإسلام .
ومن المفسرين من يجعل قوله : { كَافَّةً } حالا من الداخلين ، أي : ادخلوا في الإسلام كلكم . والصحيح الأول ، وهو أنَّهم أمروا [ كلهم ]{[3718]} أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدًا ما استطاعوا منها . وقال{[3719]} ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } - كذا قرأها بالنصب - يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمْر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تَدَعَوا منها شيئًا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها .
وقوله : { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : اعملوا الطاعات{[3720]} ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] ، و { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } قال مُطَرِّف : أغش عباد الله لعَبِيد الله الشيطان .