قوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون مالاً ينكحون به للصداق والنفقة ، { حتى يغنيهم الله من فضله } أي : يوسع عليهم من رزقه . قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } أي : يطلبون المكاتبة ، { مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم } سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب . والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤدي ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد أداء المال ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " . وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : { فكاتبوهم } أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي ، لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة . قوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيراً } اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالاً ، كقوله تعالى : { إن ترك خيراً } أي : مالاً ، وروي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيراً . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة . وقال الشافعي : وأظهر معاني الخبر في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أنبأنا أبو بكر الجورمندي ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " ً . أي : أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون العبد بالغاً عاقلاً ، فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق . قوله عز وجل : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئاً ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعاً ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء ، وهو قول الشافعي . قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : { وآتوهم من مال الله } أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : ( وفي الرقاب ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهم . ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة ، سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق أداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً . قوله عز وجل : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً } الآية ، نزلت في عبد الله بن أبي سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت الجاريتين يوماً ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه ، فأنزل الله هذه الآية : { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم على البغاء . أي : الزنا { إن أردن تحصناً } أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصناً ، كقوله تعالى : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل : شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعاً ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) إن أردن تحصناً ( ولا تكرهوا فتياتكم ) على البغاء . { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } يعني المكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن .
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ( والله واسع عليم ) . . لا يضيق على من يبتغي العفة ، وهو يعلم نيته وصلاحه .
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان .
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله ، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته :
( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا ) . .
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ، وأجر عمله له ، ليوفي منه ما كاتب عليه ؛ ويجب له نصيب في الزكاة : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) . ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ، ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال : إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ؛ فلم يكن كلا على الناس ؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها ، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ؛ بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ، احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ؛ وخص هذه الحالة بنص خاص :
( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .
قال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه ، والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ؛ فذكره أبو بكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ، يحمي البيوت الشريفة ؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة ، إن لم تجد هذا الكلأ المباح !
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء ، وإلى إقامة مقاذر إنسانية ، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس ، فيلقي فيها بالفضلات ، تحت سمع الجماعة وبصرها !
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج ، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة ، في صور آدمية ذليلة .
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وليَسْتَعْفِف الّذِينَ لا يَجِدُون "ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش، "حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ "سعة "فَضْلِهِ"، ويوسّع عليهم من رزقه.
وقوله: "وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ"، يقول جلّ ثناؤه: والذين يلتمسون المكاتبة منكم من مماليككم، "فكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْرا".
واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده الذي قد علم فيه خيرا، وهل قوله: "فَكاتِبُوهُم إنْ عَلِمْتُمْ فيهِمْ خَيْرا" على وجه الفرض أم هو على وجه الندب؟ فقال بعضهم: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا إذا سأله العبد ذلك...
وقال آخرون: ذلك غير واجب على السيد، وإنما قوله: "فَكاتِبُوهُمْ": نَدْب من الله سادَة العبيد إلى كتابة من علم فيه منهم خير، لا إيجاب...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا وسأله العبد الكتابة، وذلك أن ظاهر قوله: "فَكاتِبُوهُمْ" ظاهر أمر، وأمر الله فرضٌ الانتهاء إليه، ما لم يكن دليلٌ من كتاب أو سنة على أنه ندب، لما قد بيّنا من العلة في كتابنا المسمى «البيان عن أصول الأحكام».
وأما الخير الذي أمر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم، فهو القُدْرة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن علمتم فيهم صدقا ووفاء وأداء... وقال آخرون بل معنى ذلك: إن علمتم لهم مالاً...
وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال: معناه: فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوّة على الاحتراف والاكتساب ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجةُ إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد فأما المال وإن كان من الخير، فإنه لا يكون في العبد وإنما يكون عنده أو له لا فيه، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا لا إذا علمنا عنده أو له، فلذلك لم نقل: إن الخير في هذا الموضع معنيّ به المال.
وقوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ" يقول تعالى ذكره: وأعطُوهم من مال الله الذي أعطاكم.
ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه مَنْ هو؟ وفي المال أيّ الأموال هو؟
فقال بعضهم: الذي أمر الله بإعطاء المكاتب من مال الله هو مولَى العبد المكاتَب، ومال الله الذي أُمر بإعطائه منه هو مال الكِتابة، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه الربع.
وقال آخرون: بل ما شاء من ذلك المولى... وقال آخرون: بل ذلك حضّ من الله أهل الأموال على أن يعطوهم سهمهم الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم بقوله: "إنّمَا الصّدَقاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهمْ وفِي الرّقابِ" قال: فالرّقاب التي جعل فيها أحد سُهْمان الصدقة الثمانية هم المكاتَبون، قال: وإياه عنى جلّ ثناؤه بقوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ": أي سَهمْهم من الصدقة...
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي القول الثاني، وهو قول من قال: عَنَى به إيتاءَهم سهمهم من الصدقة المفروضة.
وإنما قلنا ذلك أولى القولين لأن قوله: "وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الّذِي آتاكُمْ" أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتَبِين من ماله الذي آتى أهل الأموال، وأمر الله فرض على عباده الانتهاءُ إليه، ما لم يخبرهم أن مراده الندْب، لما قد بيّنا في غير موضع من كتابنا. فإذ كان ذلك كذلك، ولم يكن أخبرنا في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه نَدْب، ففرض واجب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الحجة قد قامت أن لا حقّ لأحد في مال أحد غيره من المسلمين إلاّ ما أوجبه الله لأهل سُهمان الصدقة في أموال الأغنياء منهم، وكانت الكتابة التي يقتضيها سيد المكاتَب من مكاتَبِه مالاً من مال سيد المكاتَب فيفاد أن الحقّ الذي أوجب الله له على المؤمنين أن يؤتوه من أموالهم هو ما فُرِض على الأغنياء في أموالهم له من الصدقة المفروضة، إذ كان لا حقّ في أموالهم لأحد سواها.
القول في تأويل قوله تعالى: "وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: زَوّجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ولا تُكْرهوا إماءَكم على البغاء، وهو الزنا إنْ أرَدْنَ تَحَصّنا يقول: إن أردن تعففا عن الزنا.
"لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدّنْيا" يقول: لتلتمسوا بإكراهكم إياهنّ على الزنا عَرَض الحياة، وذلك ما تعرِض لهم إليه الحاجة من رِياشها وزينتها وأموالها. "وَمَنْ يُكْرِهْهُنّ" يقول: ومن يُكْره فَتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهن على ذلك، لهم "غَفُورٌ رَحِيمٌ"، ووِزْر ما كان من ذلك عليهم دونهن.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سَلَول حين أكره أمته مُسَيكة على الزنا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والعفة في العرف الامتناع عن الزنى وإن جاز أن يستعمل في الامتناع من كل فاحشة... {الذين لا يجدون نكاحا} يعني لا يقدرون عليه مع الحاجة إليه لإعسار إما بصداق أو نفقة...
{حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}...
{وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً} أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدى في العتق، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
واختلف الناس في الخير؛ فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: الدين. فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي به نزل القرآن، قال تعالى: {بلسان عربي مبين} أنه تعالى لو أراد المال لقال: أن علمتم لهم خيرا، أو عندهم خيرا، أو معهم خيرا؛ لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب. ولا يقال أصلا: في فلان مال، فلما قال تعالى: {إن علمتم فيهم خيرا} علمنا أنه تعالى لم يرد المال. فصح أنه الدين. اه
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
{وآتوهم من مال الله}، لم يرد به سيدي المكاتبين؛ وإنما هو خطاب عام للناس، مقصود به إلى من أتاه الله مالا تجب فيه زكاة. فأعلم الله عباده أن وضع الزكاة في العبد المكاتب جائز وإن كان لا يؤمن عليه العجز، وخصه من بين سائر العبيد بذلك، فجعل للمكاتبين حقا في الزكوات بقوله: {وفي الرقاب} قالوا: وهذا هو الوجه الذي يجب الاعتماد عليه في الإيتاء المذكور في الآية... ومعروف في نظام القرآن أن يسبق بضمير على غيره كما قال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن}، والمأمور بالعضل: الأولياء لا المطلقون، ومثله قوله: {أولئك مبرءون مما يقولون}، والمبرؤون غير القائلين، وهذا كثير في القرآن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ تَقاصر وسعهُ عن الإنفاق على العيال فليصبر على مقاساة التحمل في الحال، فَعَنْ قريبٍ تجيبه نَفْسُه إلى سقوط الأرب، أو الحق -سبحانه- يجود عليه بتسهيل السبب من حيث لا يَحْتَسِب، ولا تخلو حالُ المتعفِّفِ عن هذه الوجوه...
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خْيرَاً وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الذي ءَاتاكُمْ}. أي إن سَمَحَتْ نفوسكم بإزالة الرِّقِّ عن المماليك -الذين هم في الدين إخوانكم- من غير عِوَضِ تلاحظون منهم فلن تخسروا على الله في صفقتكم. وإن أبيتم إلا العوض ودعوا إلى الكتابة، وعلمتم بغالب ظنكم صحة الوفاء بمال الكتابة من قِبَلِهم فكاتبوهم ثم تعاونوا على تحصيل المقصود بكل وجهٍ؛ من قدْرٍ يحط من مال الكتابة، وإعانةٍ لهم من فروض الزكاة، وإمهالٍ بِقَدر ما يحتمل المكاتب ليكون ترفيهاً له.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} وليجتهد في العفة وظلف النفس، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه {لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به من المال {حتى يُغْنِيَهُمُ الله} ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً لهم في استعفافهم، وربطاً على قلوبهم، وليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء، وما أحسن ما رتب هذه الأوامر: حيث أمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد [من] مواقعة المعصية وهو غضّ البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«استعف» وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً...وقالت جماعة من المفسرين «النكاح» في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس...
{وآتوهم} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ كَانَ النِّكَاحُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مُخْتَلَفًا فِيهِ مَا بَيْنَ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ فَالِاسْتِعْفَافُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ إمْسَاكٌ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ؛ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَاجِبٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمَّا لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ بَيْنَ الْعِفَّةِ وَالنِّكَاحِ دَرَجَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا مُحَرَّمٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مِلْكُ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ بِنَصٍّ آخَرَ مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فَجَاءَتْ فِيهِ زِيَادَةُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِآيَةٍ فِي آيَةٍ، وَيَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءُ رَدًّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْهُ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ لِنَسْخِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} يَعْنِي يَقْدِرُونَ، وَعَبَّرَ عَنْ الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذا حكم العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
{الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي: لا يقدرون نكاحا، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من تزويجهم [وليس لهم] من قدرة على إجبارهم على ذلك، وهذا التقدير، أحسن من تقدير من قدر "لا يجدون مهر نكاح"...
{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ} أي: في الطالبين للكتابة {خَيْرًا} أي: قدرة على التكسب، وصلاحا في دينه، لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين، مصلحة العتق والحرية، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه. وربما جد واجتهد، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته، مع حصول عظيم المنفعة للعبد، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب، كما هو الظاهر، أو أمر استحباب على القول الآخر، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم، لكونهم محتاجين لذلك، بسبب أنهم لا مال لهم، فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه، أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها، وأمر الناس بمعونتهم...
{مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أي: فكما أن المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن الله إليكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله).. (والله واسع عليم).. لا يضيق على من يبتغي العفة، وهو يعلم نيته وصلاحه.
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال. والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان.
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية. وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين. لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة. حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته. وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته:
(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم. إن علمتم فيهم خيرا)..
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب. ونحن نراه الأولى؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية. ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له، وأجر عمله له، ليوفي منه ما كاتب عليه؛ ويجب له نصيب في الزكاة: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم). ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا. والخير هو الإسلام أولا. ثم هو القدرة على الكسب. فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره. وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش، ويكسب ما يقيم أوده. والإسلام نظام تكافل. وهو كذلك نظام واقع. فليس المهم أن يقال: إن الرقيق قد تحرر. وليست العنوانات هي التي تهمه. إنما تهمه الحقيقة الواقعة. ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه؛ فلم يكن كلا على الناس؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد؛ بما هو أشد وأنكى.
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة، احتراف بعض الرقيق للبغاء. وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها -وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم- فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة؛ وخص هذه الحالة بنص خاص:
(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء. إن أردن تحصنا. لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم).
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث. ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة. وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثواب منه، والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فشكت إليه ذلك؛ فذكره أبو بكر للنبي [صلى الله عليه وسلم] فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا! فأنزل الله فيهم هذا.
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء -وهن يردن العفة- ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي. ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف.
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن، يحمي البيوت الشريفة؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج. أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة، إن لم تجد هذا الكلأ المباح!
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج. فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة. وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج. فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا.. وبذلك لا تحتاج إلى البغاء، وإلى إقامة مقاذر إنسانية، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس، فيلقي فيها بالفضلات، تحت سمع الجماعة وبصرها!
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن. ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة، في صور آدمية ذليلة.
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف، الذي يصل الأرض بالسماء، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إن علمتم فيهم خيراً} إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان...
والظاهر أن الخطاب في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه...
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ (الإيتاء) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء...وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وءاتوهم} للمسلمين. أمرهم الله بإعانة المكاتبين. والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء، وحمله الشافعي على الوجوب...
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله. وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.