فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشاداً لهم إلى ما هو الأولى ، فقال : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } استعفّ : طلب أن يكون عفيفاً أي : ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد نكاحاً : أي سبب نكاح ، وهو المال . وقيل : النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به ، واللباس اسم لما يلبس ، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية ، وهي : { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ، ويتمكنون بسببه من النكاح ، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى . وهي : إن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا ، فإنه لو كان وعداً حتماً لا محالة في حصوله ؛ لكان الغنى والزواج متلازمين ، وحينئذٍ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة ، فإنه سيغنى عند تزوّجه لا محالة ، فيكون في تزوّجه مع فقره تحصيل للغنى ، إلاّ أن يقال : إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادىء النكاح ، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح ، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه التي يتحصل بها ، وأعظمها المال . ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء ، أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم } الموصول في محل رفع على الابتداء ، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده : أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ، يقال : كاتب يكاتب كتاباً ومكاتبة ، كما يقال : قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة . وقيل : الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء ، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه ، وعلى أنفسهم بذلك كتاباً ، فيكون المعنى : الذين يطلبون كتاب المكاتبة . ومعنى المكاتبة في الشرع : أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجماً ، فإذا أدّاه فهو حرّ ، وظاهر قوله : { فكاتبوهم } أن العبد إذا طلب الكتابة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده ، وهو { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ، والخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه ، وإن لم يكن له مال ، وقيل هو المال فقط ، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس ومقاتل . وذهب إلى الأوّل ابن عمر وابن زيد ، واختاره مالك والشافعي والفراء والزجاج . قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال . وقال الزجاج : لما قال { فيهم } كان الأظهر الاكتساب ، والوفاء ، وأداء الأمانة ، وقال النخعي : إن الخير الدين والأمانة . وروي مثل هذا عن الحسن . وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة . قال الطحاوي : وقول من قال : إنه المال لا يصح عندنا ، لأن العبد مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ؟ قال : والمعنى عندنا : إن علمتم فيهم الدين والصدق . قال أبو عمر بن عبد البرّ : من لم يقل : إن الخير هنا المال ، أنكر أن يقال : إن علمتم فيهم مالاً ، وإنما يقال : علمت فيه الخير ، والصلاح ، والأمانة ، ولا يقال : علمت فيه المال . هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في هذه الآية . وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أنه قد ذهب ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب . أما عكرمة ، وعطاء ، ومسروق ، وعمرو بن دينار ، والضحاك ، وأهل الظاهر ، فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيراً . وقال الجمهور من أهل العلم : لا يجب ذلك ، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده ، أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ، ولم يجبر عليه ، فكذا الكتابة لأنها معاوضة .

ولا يخفاك أن هذه حجة واهية ، وشبهة داحضة ، والحق ما قاله الأوّلون ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس واختاره ابن جرير . ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين ، فقال : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُم } ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة ، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال ، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه ، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار ، وقيل : الثلث ، وقيل : الربع ، وقيل : العشر ، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم ، وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة . وقال الحسن ، والنخعي ، وبريدة : إن الخطاب بقوله : { وآتوهم } لجميع الناس . وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه : { وَفِي الرقاب } [ التوبة : 60 ] ، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة . ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك ، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا ، فقال { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء } والمراد بالفتيات هنا الإماء ، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر . والبغاء : الزنا ، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء إذا زنت ، وهذا مختصّ بزنا النساء ، فلا يقال للرجل إذا زنا : إنه بغيّ ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } لأن الإكراه لا يتصور إلاّ عند إرادتهم للتحصن ، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها : مكرهة على الزنا ، والمراد بالتحصن هنا : التعفف ، والتزوج . وقيل : إن هذا القيد راجع إلى الأيامى . قال الزجاج والحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي وأنكحوا الأيامى ، والصالحين من عبادكم ، وإمائكم إن أردن تحصناً . وقيل : هذا الشرط ملغى . وقيل : إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه ، فإنهم كانوا يكرهونهنّ ، وهنّ يردن التعفف ، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهنّ التعفف . وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلاّ عند إرادة التحصن ، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن ، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه ، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ، ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح ، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن ، فلا يتم ما قيل : من أنه لا يتصور الإكراه إلاّ عند إرادة التحصن ، إلاّ أن يقال : إن المراد بالتحصن هنا مجرّد التعفف ، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد ، فقد قال الحبر ابن عباس : إن المراد بالتحصن التعفف ، والتزوّج ، وتابعه على ذلك غيره . ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله : { لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } ، وهو ما تكسبه الأمة بفرجها ، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب ، والمعنى : أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب ، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء ، فلا يدلّ هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها ، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا . وقيل : إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك ، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهنّ ، وهذا يلاقي المعنى الأوّل ، ولا يخالفه . { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا مقرّر لما قبله ومؤكد له ، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات ، كما تدلّ عليه قراءة ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن جبير : «فإن الله غفور رحيم لهنّ » . قيل : وفي هذا التفسير بعد ، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة . وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة ، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية ، أو يكون الإكراه قاصراً عن حدّ الإلجاء المزيل للاختيار . وقيل : إن المعنى : فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم لهم ، إما مطلقاً ، أو بشرط التوبة .

/خ34