السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

ولما ذكر تعالى تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك بقوله : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } أي : وليجهد في طلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من مهر ونفقة يوم التمكين وكسوة فصله ، وقيل : لا يجدون ما ينكحون { حتى يغنيهم الله } أي : يوسع عليهم { من فضله } فينكحون ، ولما ذكر تعالى نكاح الصالحين من العبيد والإماء حث على كتابتهم بالحكم التاسع وهو الأمر بالكتابة المذكور في قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } أي : يطلبون الكاتبة { مما ملكت أيمانكم } أي : من العبيد والإماء { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } أي : أمانة وقدرة على الكسب لأداء مال الكتابة .

وسبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى يقال له : الصبيح ، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله هذه الآية ، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب وأركانها أربعة رقيق وصيغة وعوض وسيد وشرط في السيد كونه مختاراً أهل تبرع وولاء وكتابة المريض مرض الموت محسوبة من الثلث ، فإن خلف مثلي قيمته صحت الكتابة في كله أو مثل قيمته صحت في ثلثيه أو لم يخلف غيره صحت في ثلثه ، وشرط في الرقيق اختيار وعدم صبا وجنون وأن لا يتعلق به حق آدمي لازم ، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالكتابة كأن يقول السيد لمملوكه : كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف ، فإذا أديتهما فأنت حر ، فيقول العبد : قبلت ذلك ، فلا يصح عقدها إلا مؤجلاً منجماً بنجمين فأكثر ، كما جرى عليه الصحابة فمن بعدهم ، فلا بدّ من بيان قدر العوض وصفته وعدد النجوم وقسط كل نجم فلا تجوز عند الشافعي رضي الله تعالى عنه بنجم واحد ولا بحال لأن العبد لا يملك شيئاً فعقدها بحال يمنع من حصول الغرض لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً ، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم ؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم ، وقياساً على سائر العقود وهي سنة لا واجبة ، وإن طلبها الرقيق لئلا يتعطل أثر الملك وتتحكم المماليك على الملاك بطلب رقيق أمين قوي على الكسب وبهما فسر الشافعي الخير في الآية واعتبرت الأمانة لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق ، والطلب والقدرة على الكسب ليوثق بتحصيل النجوم .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله » ، فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها فهي مباحة إذ لا يقوى رجاء العتق بها ولا تكره بحال لأنها عند فقد ما ذكر فقد تفضي إلى العتق ، نعم إن كان الرقيق فاسقاً بسرقة أو نحوها ، وعلم سيده أنه لو كاتبه مع العجز عن الكسب اكتسب بطريق الفسق لم يبعد تحريمها حينئذٍ لتضمنها التمكين من الفساد ، وتصح على عوض قليل وكثير ، ويجب أن يحط عنه قبل عتقه شيئاً متمولاً من النجوم ، أو يدفعه إليه من جنسها أو من غيرها ، كما قال تعالى : { وآتوهم } أمر للسادة { من مال الله الذي آتاكم } ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم أيها السادة ، وفي معنى الإيتاء حط شيء متمول مما التزموه بل الحط أولى من الدفع ؛ لأن القصد بالحط الإعانة على العتق وهي محققة فيه موهومة في الدفع إذ قد يصرف المدفوع في جهة أخرى ، وكون ذلك في النجم الأخير أولى منه فيما قبله لأنه أقرب إلى العتق .

يروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمر وقال : استعن به على كتابتك ، فقال : لو أخرته إلى آخر نجم ، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك وكونه ربعاً من النجوم أولى ، فإن لم تسمح به نفسه فكونه سبعاً أولى ، روى حط الربع النسائي وغيره ، وحط السبع مالك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه ، وعند أبي حنيفة أمر للمسلمين على جهة الوجوب بإعانتهم للمكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله : { وفي الرقاب } [ البقرة ، 177 ] ولما بين تعالى ما يصح من تزويج العبيد والإماء أتبع ذلك بالحكم العاشر وهو الإكراه على الزنا المذكور في قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم } أي : إماءكم { على البغاء } أي : الزنا .

كان لعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت مسيكة لمعاذة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية ، وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما : ارجعا فازنيا ، فقالا : والله لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه فنزلت .

ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي » { إن أردن تحصناً } أي : تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط ؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن ، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً ، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب ، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية ، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه ، وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي : تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور } أي : لهن { رحيم } بهن ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن : والله لهن أي : لا للمكره إلا إذا تاب .

فإن قيل : إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة ؟ أجيب : بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه .