مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

قوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } .

اعلم أنه سبحانه لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ، ذكر حال من يعجز عن ذلك ، فقال : { وليستعفف } أي وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه .

وأما قوله : { لا يجدون نكاحا } فالمعنى لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين } والمراد به بالإجماع من لم يتمكن ، ويقال في أحدنا هو غير واجد للماء وإن كان موجودا ، إذا لم يمكنه أن يشتريه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال ، فبين سبحانه وتعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ، ثم يصل إلى بغيته من النكاح ، فإن قيل أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح ؟ قلنا لكن من لم يجد المهر والنفقة ، فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى ، والله أعلم .

الحكم التاسع : في الكتابة

قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } .

اعلم أنه تعالى لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق ، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ، ليصيروا أحرارا فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار ، فقال : { والذين يبتغون الكتاب } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { والذين يبتغون } مرفوع على الابتداء ، أو منصوب بفعل مضمر يفسره فكاتبوهم ، كقولك زيدا فاضربه ، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط .

المسألة الثانية : الكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه . أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع ومنه الكتيبة سميت بذلك لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض وتضم ماله إلى ماله . وثانيها : يحتمل أن يكون اللفظ مأخوذا من الكتاب ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي لي بذلك ، أو كتبت لي كتابا عليك بالوفاء بالمال وكتبت على العتق ، وهذا ما ذكره الأزهري . وثالثها : إنما سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالا ولكنه يقع مؤجلا ليكون متمكنا من الاكتساب وغيره حين ما انقبضت يد السيد عنه ، ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتاب لما يقع فيه من الأجل ، قال تعالى : { لكل أجل كتاب } .

المسألة الثالثة : قال محيي السنة : الكتابة أن يقول لمملوكه كاتبتك على كذا ويسمى مالا معلوما يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم وما يؤدي في كل نجم ، ويقول إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو ينوي ذلك بقلبه ويقول العبد قبلت ، وفي هذا الضبط أبحاث .

البحث الأول : قال الشافعي رحمه الله : إن لم يقل بلسانه أو لم ينو بقلبه إذا أديت ذلك المال فأنت حر لم يعتق ، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا حلاجة إلى ذلك ، حجة أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى : { فكاتبوهم } خال عن هذا الشرط فوجب أن تصح الكتابة بدون هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع ، حجة الشافعي رحمه الله : أن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، لأن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بملكه ، بل قوله كاتبتك كتابة في العتق فلابد من لفظ العتق أو نيته .

البحث الثاني : لا تجوز الكتابة الحالة عند الشافعي ، وتجوز عند أبي حنيفة ، وجه قول الشافعي رحمه الله أن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقد حالا توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل مقصود العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز ، لأنه حين العقد يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز لا يتحقق عن أدائه ، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى : { فكاتبوهم } مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة ، وأيضا لما كان مال الكتابة بدلا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان السلع المبيعة فيجوز عاجلا وآجلا ، وأيضا أجمعوا على جواز العتق معلقا على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله ، لأنه بدل عن العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما .

البحث الثالث : قال الشافعي رحمه الله : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين ، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان رضي الله عنه غضب على عبده ، فقال : لأضيقن الأمر عليك ، ولأكاتبنك على نجمين ، ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق التنجيم ليتيسر عليهم الأداء . وقال أبو حنيفة رحمه الله : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : { فكاتبوهم } ليس فيه تقييد .

المسألة الرابعة : تجوز كتابة المملوك عبدا كان أو أمة ، ويشترط عند الشافعي رحمه الله أن يكون عاقلا بالغا ، فإذا كان صبيا أو مجنونا لا تصح كتابته ، لأن الله تعالى قال : { والذين يبتغون الكتاب } ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون . وعند أبي حنيفة رحمه الله : تجوز كتابة الصبي ويقبل عنه المولى .

المسألة الخامسة : يشرط أن يكون المولى مكلفا مطلقا ، فإن كان صبيا أو مجنونا أو محجورا عليه بالسفه لا تصح كتابته كما لا يصح بيعه ، ولأن قوله { فكاتبوهم } خطاب فلا يتناول غير العاقل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تصح كتابة الصبي بإذن الولي .

المسألة السادسة : اختلف العلماء في أن قوله { فكاتبوهم } أمر إيجاب أو أمر استحباب ؟ فقال قائلون هو أمر إيجاب ، فيجب على الرجل أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيرا ، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول عمرو بن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد بن جرير ، واحتجوا عليه بالآية والأثر . أما الآية فظاهر قوله تعالى : { فكاتبوهم } لأنه أمر وهو للإيجاب ، ويدل عليه أيضا سبب نزول الآية ، فإنها نزلت في غلام لحويطب ابن عبد العزى يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا ، وأما الأثر فما روي أن عمر أمر أنسا أن يكاتب سيرين أبا محمد ابن سيرين فأبى ، فرفع عليه الدرة وضربه وقال { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن ذلك واجبا لكان ضربه بالدرة ظلما ، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة فجرى ذلك مجرى الإجماع ، وقال أكثر الفقهاء إنه أمر استحباب وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري واحتجوا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه » وأنه لا فرق أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة وهذه طريقة المعاوضات أجمع وههنا سؤالان :

السؤال الأول : كيف يصح أن يبيع ماله بماله ؟ قلنا إذا ورد الشرع به فيجب أن يجوز كما إذا علق عتقه على مال يكتسبه فيؤديه أو يؤدي عنه صار سببا لعتقه .

السؤال الثاني : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه ؟ لولا الكتابة ؟ قلنا نعم لأنه لو دفع إليه الزكاة ، ولم يكاتب لم يحل له أن يأخذها وإذا صار مكاتبا حل له وإذا دفع إلى مولاه حل له ، سواء أدى فعتق أو عجز فعاد إلى الرق ، ويستفيد أيضا أن الكتابة تبعثه على الجد والاجتهاد في الكسب ، فلولاها لم يكن ليفعل ذلك ، ويستفيد المولى الثواب لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه ففيه ثواب ، ويستفيد أيضا الولاء لأنه لو عتق من قبل غيره لم يكن له ولاء وإذا عتق بالكتابة فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لما ذكرناه من الفوائد .

أما قوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيرا } فذكروا في الخير وجوها . أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن علمتم لهم حرفة ، فلا تدعوهم كلا على الناس » . وثانيها : قال عطاء الخير المال وتلا { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا } أي ترك مالا ، قال وبلغني ذلك عن ابن عباس . وثالثها : عن ابن سيرين قال إذا صلى وقال النخعي وفاء وصدقا وقال الحسن صلاحا في الدين . ورابعها : قال الشافعي رحمه الله المراد بالخير الأمانة والقوة على الكسب ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما فإنه ينبغي أن يكون كسوبا يحصل المال ويكون أمينا يصرفه في نجومه ولا يضيعه فإذا فقد الشرطان أو أحدهما لا يستحب أن يكاتبه ، والأقرب أنه لا يجوز حمله على المال لوجهين : الأول : أن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرا ، لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال . الثاني : أن العبد لا مال له بل المال لسيده ، فالأولى أن يحمل على ما يعود على كتابته بالتمام ، وهو الذي ذكره الشافعي رحمه الله وهو أن يتمكن من الكسب ويوثق به بحفظ ذلك لأن كل ذلك مما يعود على كتابته بالتمام ودخل فيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الخير لأنه عليه الصلاة والسلام فسره بالكسب وهو داخل في تفسير الشافعي رحمه الله .

أما قوله : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : اختلفوا في المخاطب بقوله : { وآتوهم } على وجوه . أحدها : أنه هو المولى يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءا مما أخذ منه ، وهؤلاء اختلفوا في قدره فمنهم من جعل الخيار له وقال يجب أن يحط قدرا يقع به الاستغناء ، وذلك يختلف بكثرة المال وقلته ومنهم من قال يحط ربع المال ، روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمان أنه كاتب غلاما له فترك له ربع مكاتبته ، وقال إن عليا كان يأمرنا بذلك ويقول وهو قول الله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } فإن لم يفعل فالسبع ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدا له بخمس وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف ، ويروى أن عمر كاتب عبدا له فجاء بنجمه فقال له اذهب فاستعن به على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب لو تركته إلى آخر نجم ؟ فقال إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية ، وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز . وثانيها : المراد وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات في قوله : { وفي الرقاب } وعلى هذا فالخطاب لغير السادة وهو قول الحسن والنخعي ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، وأجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع صدقته المفروضة إلى مكاتب نفسه . وثالثها : أن هذا أمر من الله تعالى للسادة والناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم ، وهذا قول الكلبي وعكرمة والمقاتلين والنخعي وقال عليه الصلاة والسلام : «من أعان مكاتبا على فك رقبته أظله الله تعالى في ظل عرشه » ، وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني عملا يدخلني الجنة قال : «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة ، فقال أليسا واحدا ؟ فقال لا ، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها » قالوا ويؤكد هذا القول وجوه . أحدها : أنه أمر بإعطائه من مال الله تعالى وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب . وثانيها : أن قوله : { من مال الله الذي آتاكم } هو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح . وثالثها : أن ما آتاه الله فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه ، وما سقط عقيب العقد لم يحصل له عليه يد ملك ، فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه ، فإن قيل ههنا وجهان يقدحان في صحة هذا التأويل أحدهما : أنه كيف يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ من مال الصدقة . والثاني : أن قوله : { وآتوهم } معطوف على قوله : { فكاتبوهم } فيجب أن يكون المخاطب في الموضعين واحدا ، وعلى هذا التأويل يكون المخاطب في الآية الأولى السادات ، وفي الثانية سائر المسلمين قلنا : أما الأول فجوابه أن تلك الصدقة تحل لمولاه وكذلك إذا لم تقف الصدقة بجميع النجوم وعجز عن أداء الباقي كان للمولى ما أخذه لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة ، ولكن بسبب عقد الكتابة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها منه . يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية » والجواب : عن الثاني أنه قد يصح الخطاب لقوم ثم يعطف عليه بمثل لفظه خطابا لغيرهم ، كقوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء } فالخطاب للأزواج ثم خاطب الأولياء بقوله : { فلا تعضلوهن } وقوله : { مبرءون مما يقولون } والقائلون غير المبرئين فكذا ههنا قال للسادة { فكاتبوهم } وقال لغيرهم { وآتوهم } أو قال لهم ولغيرهم .

المسألة الثانية : قال الشافعي رحمه الله يجب على المولى إيتاء المكاتب وهو أن يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءا مما أخذ منه ، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه إنه مندوب إليه لكنه غير واجب ، حجة الشافعي رحمه الله ظاهر قوله : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } والأمر للوجوب فقيل عليه إن قوله : { فكاتبوهم } وقوله : { وآتوهم } أمران وردا في صورة واحدة فلم جعلت الأولى ندبا والثاني إيجابا ؟ وأيضا فقد ثبت أن قوله { وآتوهم } ليس خطابا مع الموالي بل مع عامة المسلمين . حجة أبي حنيفة رحمه الله من حيث السنة والقياس ، أما السنة فما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد » فلو كان الحط واجبا لسقط عنه بقدره ، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : «جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعيتني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت عائشة رضي الله عنها ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت ، فأبوا فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال «لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق » وجه الاستدلال أنها ما قضت من كتابتها شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها بالكلية وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله النكر عليها ، ولم يقل إنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها فثبت قولنا . وأما القياس فمن وجهين . الأول : لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد موجبا له ومسقطا له وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب . الثاني : لو كان الحط واجبا لما احتاج إلى أن يضع عنه بل كان يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم حصل لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قصاصا ، ولو كان كذلك لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوما أو مجهولا فإن كان معلوما وجب أن تكون الكتابة بألفين فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف . والكتابة أربعة آلاف وذلك باطل لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها ، ولأنه عليه السلام قال : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » وإن كان مجهولا صارت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيئا وذلك غير جائز ، والله أعلم .

قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } .

الحكم العاشر : الإكراه على الزنا

اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في سبب نزولها على وجوه . الأول : كان لعبد الله بن أبي المنافق ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت [ ا ]ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية . وثانيها : أن عبد الله ابن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة فامتنعت الجارية لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك ، رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت . وثالثها : روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «جاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية من أجمل النساء تسمى معاذة ، فقال يا رسول الله هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام «لا » فأعاد الكلام » فنزلت الآية وقال جابر بن عبد الله «جاءت جارية لبعض الناس فقالت إن سيدي يكرهني على البغاء » فنزلت الآية .

المسألة الثانية : الإكراه إنما يحصل متى حصل التخويف بما يقتضي تلف النفس فأما باليسير من الخوف فلا تصير مكرهة ، فحال الإكراه على الزنا كحال الإكراه على كلمة الكفر والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أن حال الحرائر كذلك .

المسألة الثالثة : العرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة ، قال تعالى : { فلما جاوزا قال لفتاه } وقال : { تراود فتاها } وقال : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وفي الحديث «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي » .

المسألة الرابعة : البغاء الزنا يقال بغت تبغي بغاء فهي بغي .

المسألة الخامسة : الذي نقول به أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، والدليل عليه اتفاق أهل اللغة على أن كلمة إن للشرط واتفاقهم على أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه ، ومجموع هاتين المقدمتين النقليتين ، يوجب الحكم بأن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، واحتج المخالف بهذه الآية فقال إنه سبحانه علق المنع من الإكراه على البغاء على إرادة التحصن بكلمة إن فلو كان الأمر كما ذكرتموه لزم أن لا ينتفي المنع من الإكراه على الزنا إذا لم توجد إرادة التحصن وذلك باطل ، فإنه سواء وجدت إرادة التحصن أو لم توجد فإن المنع من الإكراه على الزنا حاصل والجواب : لا نزاع أن ظاهر الآية يقتضي جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ولكنه فسد ذلك لامتناعه في نفسه لأنه متى لم توجد إرادة التحصن في حقها لم تكن كارهة للزنا ، وحال كونها غير كارهة للزنا يمتنع إكراهها على الزنا فامتنع ذلك لامتناعه في نفسه وذاته ، ومن الناس من ذكر فيه جوابا آخر وهو أن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله تعالى : { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } مفهوم ومن هذا القبيل قوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } والقصر لا يختص بحال الخوف ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب ، فكذا ههنا والجواب الثالث معناه إذا أردن تحصنا لأن القصة التي وردت الآية فيها كانت كذلك على ما روينا أن جارية عبد الله بن أبي أسلمت وامتنعت عليه طلبا للعفاف فأكرهها فنزلت الآية موافقة لذلك ، نظيره قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } أي وإذا كنتم في ريب .

المسألة السادسة : أنه تعالى لما منع من إكراههن على الزنا ففيه ما يدل على أن لهم إكراههن على النكاح فليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها بل له أن يكرهها على ذلك وهذه الدلالة دلالة دليل الخطاب .

أما قوله { إن أردن تحصنا } أي تعففا { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } يعني كسبهن وأولادهن .

أما قوله : { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } فاعلم أنه ليس في الآية [ بيان ] أنه تعالى غفور رحيم للمكره أو للمكرهة لا جرم ذكروا فيه وجهين : أحدهما : فإن الله غفور رحيم بهن ، لأن الإكراه أزال الإثم والعقوبة ، لأن الإكراه عذر للمكرهة ، أما المكره فلا عذر له فيما فعل . الثاني : المراد فإن الله غفور رحيم بالمكره بشرط التوبة وهذا ضعيف لأن على التفسير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار ، وعلى التفسير الثاني يحتاج إليه .