فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادا لهم إلى ما هو الأولى فقال :

{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } يقال استعف إذا طلب أن يكون عفيفا أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد سبب نكاح وهو المال ، وقيل النكاح هنا ما ينكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به واللباس اسم لما يلبس قال ابن عباس : ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه ، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية وهي :

{ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي يرزقهم رزقا يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح ، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى وهي { إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ } بالمشيئة كما ذكرنا ، فإنه لو كان وعدا حتما لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين ، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة فإنه يستغني عند تزوجه لا محالة فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى ، إلا أن يقال إن الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح ، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح ، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا إذا كان غير واجد لأسبابه ، التي يتحصل بها وأعظمها المال .

وانظر كيف رتب هذه الأوامر فأمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح المحصن المغني عن الحرام ، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يقدر عليه ، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال :

{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } من العبيد والإماء ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ، يقال كاتب يكاتب كتابا ، ومكاتبة ، كما يقال : قاتل يقاتل قتالا ، ومقاتلة ، وقيل : الكتاب ههنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء ، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا ، فيكون المعنى : الذين يطلبون كتاب المكاتبة ومعناها في الشرع أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما ، فإذا أداه فهو حر . عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى ، فسألته الكتابة فأبى ، فنزلت هذه الآية .

وظاهر قوله { فَكَاتِبُوهُمْ } أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده ، وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده ، وهو { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } الخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه ، وإن لم يكن له مال ، وقيل هو المال فقط كما ذهب إليه مجاهد والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، وطاووس ، ومقاتل وروي عن علي ، وابن عباس ، وعنه أيضا أمانة ووفاء ، وعنه قال : إن علمت مكاتبك يقضيك ، وعنه قال : حيلة ولا تلقوا مؤونتهم على المسلمين ، وذهب إلى الأول ابن عمر ، وابن زيد ، واختاره مالك ، والشافعي والفراء والزجاج .

قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء ، وتأدية للمال وقال الزجاج : لما قال : { فيهم } كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة وقال النخعي : إن الخير الدين ، والأمانة ، وروي مثل هذا عن الحسن . وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة قال الطحاوي : وأقول من قال إنه المال لا يصح عندنا ، لأن العبد مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ، قال : والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق .

قال أبو عمرو بن عبد البر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا ، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ، ولا يقال علمت فيه المال ، هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم ، في الخير المذكور في هذه الآية وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق ، وعمرو ابن دينار ، والضحاك ، وأهل الظاهر ، فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك ، وعلم فيه خيرا ، وقال الجمهور من أهل العلم ، لا يجب ذلك ، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ، ولم يجبر عليه ، فكذا الكتابة لأنها معاوضة .

ولا يخفاك أنه حجة واهية ، وشبهة داحضة ، والحق ما قاله الأولون وبه قال عمر وابن عباس واختاره ابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه ، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال : كاتبه وتلا { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } فكاتبته قال ابن كثير إن إسناده صحيح .

وعن يحيى بن كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلا على الناس ) . أخرجه أبو داود في المراسيل ، والبيهقي في سننه . ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي ، وجوزها أبو حنيفة إلى نجم واحد ، وقيل : إن الأمر مطلق ، فيجوز حالا ، ومؤجلا ، ومنجما ، وغير منجم . ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال :

{ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه . وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار ، وقيل : الثلث ، وقيل الربع ، وقيل : العشر . ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم ، وسياق الكلام معهم ، فإنهم هم المأمورون بالكتابة .

وقال الحسن والنخعي وبريدة : إن الخطاب بقوله : { وَآتُوهُم } لجميع الناس . وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم ، كما في قوله سبحانه : { وفي الرقاب } ، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة . قال ابن عباس : أي : ضعوا عنهم من مكاتبتهم ، وعن نافع قال : كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ، ويقول : تطعمني من أوساخ الناس وعن ابن عباس في الآية قال : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب .

وعن علي ابن أبي طالب : أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه ، وهذا تعليم من الله ليس بفريضة ، ولكن فيه أجرا . وقال صاحب الجمل : إن الأمر للوجوب . وعن بريدة في الآية قال : حث الناس على أن يعطوه ، ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك ، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال :

{ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء } المراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر ، والفتى : الشاب ، والفتاة : الشابة ، والبغاء بالكسر والمد ، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء ، إذا زنت ، وفجرت ، وهذا مختص بزنا النساء ، فلا يقال : للرجل إذا زنى : إنه بغى . قاله الأزهري . والجمع : البغايا ، والبغي القينة ، وإن كانت عفيفة ، لثبوت الفجور لها في الأصل ، قاله الجوهري ، ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب . والأمة تباغي ، أي : تزاني ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله :

{ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } لأن الإكراه لا يتصور ، ولا يكون إلا عند إرادتهن للتحصن ، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا ، والمراد بالتحصن هنا التعفف والتزوج ، وقيل : إن هذا القيد راجع إلى الأيامى . قال الزجاج ، والحسن بن الفضل : في الكلام تقديم ، وتأخير ، أي : وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن أردن تحصنا . وقيل : إن هذا الشرط ملغى ، وقيل : إن هذا الشرط باعتبار ما عليه ، فإنه كانوا يكرهونهن ، وهن يردن التعفف ، وليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا ، وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن ، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن ، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه .

فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ، ولا للحرام ، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح ، والصغيرة ، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن ، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف ، وإنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن ، وهو بعيد . فقد قال الحبر ابن عباس : إن المراد بالتحصن : التعفف ، والتزوج ، وتابعه على ذلك غيره .

أخرج مسلم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وغيرهم ، عن جابر بن عبد الله قال : كان عبد الله بن أبيّ يقول لجارية له : اذهبي فابغينا شيئا ، وكانت كارهة ، فأنزل الله هذه الآية . وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها . مسيكة ، وأخرى يقال لها : أميمة ، وكان يريدهما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله هذه الآية .

وأخرج البزار ، وغيره ، عن أنس نحو حديث جابر الأول ، وعن علي ابن أبي طالب قال : كان أهل الجاهلية يبغين{[1301]} إماؤهم فنهوا عن ذلك في الإسلام ، وعن ابن عباس قال : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنزلت الآية ، وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وآله وسلك عن مهر البغي ، وكسب الحجام ، وحلوان الكاهن ، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله :

{ لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما تكسبه الأمة بفرجها ، وهذا التعليل خارج مخرج الغالب ، والمعنى : أن هذا الغرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب ، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء ، لا لفائدة له أصلا ، لا يصدر مثله عن العقلاء ، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها ، إذا لم يكن مبتغيا بإكراهها عرض الحياة الدنيا ، وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك ، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن ، وهذا يلاقي المعنى الأول ، ولا يخالف .

{ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا مقرر لما قبله ، ومؤكد له ، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات ، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وغيره ، فإن الله غفور رحيم لهن . قيل وفي هذا التفسير بعد ، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة ، وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ، إما بحكم الجبلة البشرية ، أو بكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن ، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب ، وقيل : إن المعنى غفور رحيم لهم ، إما مطلقا أو بشرط التوبة ،


[1301]:يبغين إماؤهم هو وجه صحيح في جمع الفعل قبل.