ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادا لهم إلى ما هو الأولى فقال :
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } يقال استعف إذا طلب أن يكون عفيفا أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد سبب نكاح وهو المال ، وقيل النكاح هنا ما ينكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما يلتحف به واللباس اسم لما يلبس قال ابن عباس : ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه ، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية وهي :
{ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي يرزقهم رزقا يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح ، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى وهي { إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ } بالمشيئة كما ذكرنا ، فإنه لو كان وعدا حتما لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج متلازمين ، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة فإنه يستغني عند تزوجه لا محالة فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى ، إلا أن يقال إن الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح ، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح ، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا إذا كان غير واجد لأسبابه ، التي يتحصل بها وأعظمها المال .
وانظر كيف رتب هذه الأوامر فأمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر ، ثم بالنكاح المحصن المغني عن الحرام ، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يقدر عليه ، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال :
{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } من العبيد والإماء ، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ، يقال كاتب يكاتب كتابا ، ومكاتبة ، كما يقال : قاتل يقاتل قتالا ، ومقاتلة ، وقيل : الكتاب ههنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشيء ، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا ، فيكون المعنى : الذين يطلبون كتاب المكاتبة ومعناها في الشرع أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما ، فإذا أداه فهو حر . عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال : كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى ، فسألته الكتابة فأبى ، فنزلت هذه الآية .
وظاهر قوله { فَكَاتِبُوهُمْ } أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده ، وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده ، وهو { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } الخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه ، وإن لم يكن له مال ، وقيل هو المال فقط كما ذهب إليه مجاهد والحسن ، وعطاء ، والضحاك ، وطاووس ، ومقاتل وروي عن علي ، وابن عباس ، وعنه أيضا أمانة ووفاء ، وعنه قال : إن علمت مكاتبك يقضيك ، وعنه قال : حيلة ولا تلقوا مؤونتهم على المسلمين ، وذهب إلى الأول ابن عمر ، وابن زيد ، واختاره مالك ، والشافعي والفراء والزجاج .
قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء ، وتأدية للمال وقال الزجاج : لما قال : { فيهم } كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة وقال النخعي : إن الخير الدين ، والأمانة ، وروي مثل هذا عن الحسن . وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة قال الطحاوي : وأقول من قال إنه المال لا يصح عندنا ، لأن العبد مال لمولاه ، فكيف يكون له مال ، قال : والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق .
قال أبو عمرو بن عبد البر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا ، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ، ولا يقال علمت فيه المال ، هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم ، في الخير المذكور في هذه الآية وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق ، وعمرو ابن دينار ، والضحاك ، وأهل الظاهر ، فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك ، وعلم فيه خيرا ، وقال الجمهور من أهل العلم ، لا يجب ذلك ، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ، ولم يجبر عليه ، فكذا الكتابة لأنها معاوضة .
ولا يخفاك أنه حجة واهية ، وشبهة داحضة ، والحق ما قاله الأولون وبه قال عمر وابن عباس واختاره ابن جرير عن أنس بن مالك قال : سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه ، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال : كاتبه وتلا { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } فكاتبته قال ابن كثير إن إسناده صحيح .
وعن يحيى بن كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلا على الناس ) . أخرجه أبو داود في المراسيل ، والبيهقي في سننه . ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي ، وجوزها أبو حنيفة إلى نجم واحد ، وقيل : إن الأمر مطلق ، فيجوز حالا ، ومؤجلا ، ومنجما ، وغير منجم . ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال :
{ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة ، إما بأن يعطوهم شيئا من المال أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه . وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار ، وقيل : الثلث ، وقيل الربع ، وقيل : العشر . ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم ، وسياق الكلام معهم ، فإنهم هم المأمورون بالكتابة .
وقال الحسن والنخعي وبريدة : إن الخطاب بقوله : { وَآتُوهُم } لجميع الناس . وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم ، كما في قوله سبحانه : { وفي الرقاب } ، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة . قال ابن عباس : أي : ضعوا عنهم من مكاتبتهم ، وعن نافع قال : كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ، ويقول : تطعمني من أوساخ الناس وعن ابن عباس في الآية قال : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب .
وعن علي ابن أبي طالب : أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه ، وهذا تعليم من الله ليس بفريضة ، ولكن فيه أجرا . وقال صاحب الجمل : إن الأمر للوجوب . وعن بريدة في الآية قال : حث الناس على أن يعطوه ، ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك ، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال :
{ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء } المراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر ، والفتى : الشاب ، والفتاة : الشابة ، والبغاء بالكسر والمد ، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء ، إذا زنت ، وفجرت ، وهذا مختص بزنا النساء ، فلا يقال : للرجل إذا زنى : إنه بغى . قاله الأزهري . والجمع : البغايا ، والبغي القينة ، وإن كانت عفيفة ، لثبوت الفجور لها في الأصل ، قاله الجوهري ، ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب . والأمة تباغي ، أي : تزاني ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله :
{ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } لأن الإكراه لا يتصور ، ولا يكون إلا عند إرادتهن للتحصن ، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا ، والمراد بالتحصن هنا التعفف والتزوج ، وقيل : إن هذا القيد راجع إلى الأيامى . قال الزجاج ، والحسن بن الفضل : في الكلام تقديم ، وتأخير ، أي : وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن أردن تحصنا . وقيل : إن هذا الشرط ملغى ، وقيل : إن هذا الشرط باعتبار ما عليه ، فإنه كانوا يكرهونهن ، وهن يردن التعفف ، وليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا ، وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن ، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن ، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه .
فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ، ولا للحرام ، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح ، والصغيرة ، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن ، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف ، وإنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن ، وهو بعيد . فقد قال الحبر ابن عباس : إن المراد بالتحصن : التعفف ، والتزوج ، وتابعه على ذلك غيره .
أخرج مسلم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وغيرهم ، عن جابر بن عبد الله قال : كان عبد الله بن أبيّ يقول لجارية له : اذهبي فابغينا شيئا ، وكانت كارهة ، فأنزل الله هذه الآية . وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها . مسيكة ، وأخرى يقال لها : أميمة ، وكان يريدهما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج البزار ، وغيره ، عن أنس نحو حديث جابر الأول ، وعن علي ابن أبي طالب قال : كان أهل الجاهلية يبغين{[1301]} إماؤهم فنهوا عن ذلك في الإسلام ، وعن ابن عباس قال : كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنزلت الآية ، وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وآله وسلك عن مهر البغي ، وكسب الحجام ، وحلوان الكاهن ، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله :
{ لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وهو ما تكسبه الأمة بفرجها ، وهذا التعليل خارج مخرج الغالب ، والمعنى : أن هذا الغرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب ، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء ، لا لفائدة له أصلا ، لا يصدر مثله عن العقلاء ، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها ، إذا لم يكن مبتغيا بإكراهها عرض الحياة الدنيا ، وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك ، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهن ، وهذا يلاقي المعنى الأول ، ولا يخالف .
{ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا مقرر لما قبله ، ومؤكد له ، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات ، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وغيره ، فإن الله غفور رحيم لهن . قيل وفي هذا التفسير بعد ، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة ، وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ، إما بحكم الجبلة البشرية ، أو بكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين ، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة ، لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن ، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب ، وقيل : إن المعنى غفور رحيم لهم ، إما مطلقا أو بشرط التوبة ،