الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

قوله : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } : يجوز فيه الرفعُ على الابتداء . والخبرُ الجملةُ المقترنةُ بالفاء ، لِما تضمَّنَه المبتدأ من معنى الشرط . ويجوز نصبه بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال . وهذا أرجحُ لمكان الأمر .

وقال الزمخشري : " وقد آم وآمَتْ وتَأَيَّما : إذا لم يتزوَّجا ، بِكْرين كانا أو ثِّيَبْن . قال :

فإن تنكِحي أنكِحْ وإن تتأيَّمي *** وإن كنتُ أَفْتَى منكمُ أتَأَيَّمُ

وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم : " اللهم إنَّا نعوذ بك من العَيْمة والغيمة والأيمة والكَزَم والقَرَم " قلت : أما العَيْمَة بالمهملة فشدةُ شهوةِ اللبن ، وبالمعجمةِ شدةُ العطشِ . والأَيْمة : طول العُزْبَة ، والكَزَم : شدةُ شهوةِ الأكل . والقَرَمُ : شدةُ شهوةِ اللحم .

قوله : { عَلَى الْبِغَآءِ } " البغاء " مصدرُ بَغَت المرأةُ تَبْغي بِغاءً ، أي : زَنَتْ . وهو مختصٌّ بزِنى النساء . ولا مفهومَ لهذا الشرطِ ؛ لأن الإِكراهَ لا يكونُ مع الإِرداة .

قوله : { فِإِنَّ اللَّهَ } جملةٌ وقعَتْ جواباً للشرط . والعائدُ على اسمِ الشرط محذوفٌ تقديرُه : غفور لهم . وقدَّره الزمخشري في أحدِ تقديراتِه ، وابن عطية ، وأبو البقاء : فإنَّ اللهَ غفورٌ لهنَّ أي : للمُكْرَهات ، فَعَرِيَتْ جملةُ الجزاءِ عن رابطٍ يَرْبِطُها باسمِ الشرطِ . لا يُقال : إن الرابطَ هو الضميرُ المقدَّرُ الذي هو فاعلُ المصدرِ ؛ إذ التقديرُ : مِنْ بعد إكراهِهم لهنَّ فَلْيُكْتَفَ بهذا الرابطِ المقدَّرِ ؛ لأنهم لم يَعُدُّوا ذلك من الروابطِ ، تقول : " هندٌ عجبْتُ مِنْ ضَرْبِها زيداً " فهذا جائزٌ ، ولو قلت : هندٌ عجبتُ مِنْ ضَرْبِ زيدٍ أي : من ضَرْبِها ، لخلوِّها من الرابطِ وإنْ كان مقدَّراً .

وقد ضَعَّفَ الإِمامُ الرازي تقديرَ " بهم " ورَجِّح تقديرَ " بهنَّ " فقال : " فيه وجهان ، أحدُهما : غفورٌ لهنَّ ؛ لأن الإِكراهَ يُزيل الإِثمَ والعقوبةَ عن المُكْرَهِ فيما فَعَلَ . والثاني : فإنَّ اللهَ غفورٌ للمكرِه بشرطِ التوبةِ . وهذا ضعيفٌ لأنه على التفسيرِ الأولِ لا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ " . وفيه نظرٌ لِما عَرَفْتَ من أنَّه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ عند الجمهورِ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرةِ . ولَمَّا قَدَّر الزمخشريُّ " لهنَّ " أورد سؤالاً فقال : " فإن قلتَ : لا حاجةَ إلى تعليقِ المغفرةِ بِهنَّ ، لأنَّ المُكْرَهَةَ على الزِّنَى بخلاف المكرِه [ عليه في أنها ] غيرُ آثمةٍ . قلت : لعل الإِكراهَ غيرُ ما اعتبَرَتْه الشريعةُ من إكراهٍ بقَتْلٍ أو ممَّا يُخافُ منه التَّلَفُ أو فواتُ عضوٍ حتى تَسْلَمَ من الإِثمِ . وربما قَصَّرَتْ عن الحدِّ الذي تُعْذَرُ فيه فتكونُ آثمةً " .