{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا 1 حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ 2 مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا 3 وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 33 ) } .
1 نكاحا : هنا بمعنى قدرة مادية على الزواج .
2 الكتاب : بمعنى المكاتبة وهي اصطلاح يراد به افتداء العبد نفسه بمال يتعهد بأدائه لسيده ، فإذا أداه أصبح حرا . ولعلها تنطوي على معنى التعاقد بين السيد وعبده .
3 خيرا : هنا بمعنى الصلاح والقابلية وحسن الخلق والقصد والصدق والوفاء . . . . الخ .
الأول : تنبيه للذين لا يقدرون ماديا على التزوج إلى واجب التزام العفة حتى يغنيهم الله من فضله وتجنب الإثم ومزالقه .
الثاني : أمر لمالكي الرقيق بمكاتبة رقيقهم إذا طلبوا ذلك ، وكانوا صالحين له مع حث المالكين وغيرهم على التصدق عليهم من مال الله الذي آتاهم .
الثالث : نهي عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن ابتغاء المال وعرض الدنيا مع الإنذار للمكرهين والوعد بالمغفرة للمكرهات .
{ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا }الخ .
روى المفسرون أن الأمر الثاني في الآية نزل في حق عبد لحويطب ابن عبد العزى طلب من سيده المكاتبة فأباها ، فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أمر الله بذلك أمره النبي بمكاتبه على مائة دينار ، وأن الأمر الثالث نزل في حق عبد الله ابن أبي سلول الذي كان يجبر أمتين له على التكسب من البغاء وإعطائه ما تكسبان ، فشكتا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فمنع بالأمر القرآني . وهذه الرواية رويت بطرق عديدة ، وفي حديث رواه مسلم عن جابر قال ( كان لعبد الله ابن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمى مسيكة وأخرى تسمى أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الآية . . . ) {[1513]} ولم يرو المفسرون رواية عن نزول الفقرة الأولى . والروايات قد تقتضي أن تكون الآية نزلت مجزأة وفي أوقات متباعدة فيما يبدو غريبا .
( 1 ) أن الفقرة الأولى من الآية متصلة اتصالا تاما بموضوع الآية السابقة .
( 2 ) أن الموضوع الثالث يحتمل معنى آخر معنى التكسب بالبغاء ، وهو النهي عن عدم تزويج الفتيات أو الامتناع عن تزويجهن لأسباب مادية إذا ما أظهرن رغبة في الزواج توكيدا لاتباع فحوى الآية السابقة وتفاديا من التورط في الإثم .
وقد عبر عن الرغبة في الزواج بجملة { عن أردن تحصنا } وقد جاء في هذا المعنى في آيات عديدة من ذلك آية سورة النساء ( 24 ) التي فيها تحريم { والمحصنات من النساء } بمعنى المتزوجات وآية سورة النساء ( 25 ) التي فيها جملة { فإذا أحصن } بمعنى إذا تزوجن بل نحن نرى أن هذا المعنى هو الذي يستقيم أكثر من معنى الإجبار على البغاء لأخذ أجرته .
( 3 ) أنه ليس من المستعبد أن تكون المكاتبة التي يحث عليها الأمر الثاني متصلة بتزويج العبيد الذي حثت عليه الآية السابقة ؛ لأن معقول أن يرى العبد حرصا من الزواج مع العبودية أو مانعا بسببها فيطلب التحرر قبل الإقدام عليه .
فإذا صحت هذه الملاحظات فتكون الآية كلها متصلة بالآية السابقة سياقا وموضوعا وتكون فقراتها الثلاث وحدة متوافقة ، وهذا لا يمنع من أن يكون واحد من العبيد أبى سيده عليه المكاتبة فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن بعض الفتيات راجعن النبي صلى الله عليه وسلم بسبب امتناع ذويهن أو مالكيهن من تزويجهن وإكراههن على البغاء نتيجة لذلك اقتضت حكمة التنزيل التنبيه على ما يجب في الأمرين في سياق التعقيب على الآية السابقة ليكون الحكم عاما والله تعالى أعلم .
ويبدو أن حث غير القادرين على الزواج على التعفف متصل بما يبرره الأعزب لنفسه وبما تبرره له الطبيعة ، وبسبيل التنبيه على ما في الزنا من إثم عظيم على كل حال . وواضح أنه ليس من تناقض بين الفقرة الأولى من الآية وبين ما في الآية السابقة من الحث على الزواج وعدم جعل الفقر عثرة في سبيله فما لا ريب فيه أنه قد يكون حالات من الفقر والعسر تحول دون الزواج . والمتبادر أن حكمة التنزيل قد لحظت هذه الحالات فأمرت في الفقرة الأولى بالتزام العفة فيها ، ولقد لحظت حكمة التنزيل في آية سورة النساء ( 25 ) حالة عجز الحر عن التزوج بالحرة لأسباب مادية فأذنت له بالتزوج من أمة ؛ لأن ذلك أقل حيث يبدو أن الحالة الملحوظة هنا هي خاصة بمن لا يستطيع ماديا التزوج مطلقا من حرة أو أمة على السواء .
والجملة الأخيرة من الآية متسقة مع التلقينات القرآنية والنبوية في شأن عفو الله وغفرانه لمن يكره على اقتراف إثم ما على ما شرحناه في مناسبات سابقة .
ولعلها في مقامها تنطوي على تلقين بعدم التزمت في التزوج من المكرهات على البغاء أو المعتدى على أعراضهن من الفتيات إذا ما تبن وأظهرن الصلاح وأردن التحصن والتعفف .
مدى حث القرآن على مكاتبة المماليك
وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك .
والمكاتبة وسيلة من وسائل تحرير الرقيق ، وصيغة الآية قد تلهم أنها كانت جارية قبل نزولها أيضا كما هو شأن عتق الرقاب فأكدها القرآن ؛ لأنها مما يتسق مع ما حث عليه في مختلف المواضيع والمناسبات . وما تضمنته الآية من الحث على التصدق على المكاتبين ينطوي على توكيد وجوب تسهيل تحريرهم وعتقهم كما هو المتبادر . وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة وأوردناه قبل تدعيم حيث جاء فيه أن المكاتب الذي يريد الأداء من الذين حق على الله عونهم .
وفي كتب التفسير{[1514]}أحاديث وأقوال في أحكام المكاتبة صارت مستندات لمذاهب فقهية بالإضافة إلى محتوى الجملة .
فأولا : هناك خلاف فيما إذا كان الأمر بالمكاتبة هو على سبيل الإيجاب أم الاستحباب ، وقد استند الذين قالوا بالإيجاب إلى ظاهر الآية التي تأمر بالمكاتبة إذا ما طلبها المملوك وإلى حديث رواه قتادة عن أنس بن مالك مفاده أن مملوكه سيرين طلب المكاتبة فتلكأ ، فشكاه إلى عمرابن الخطاب فأمره بمكاتبته ، وفي رواية علاه بالدرة على تلكؤه . وقد يكون هذا الرأي هو الأوجه المتسق مع روح التلقين القرآني العام بتحرير الرقاب إطلاقا . وإن كان يرد أن جملة { إن علمتم فيهم خيرا } في الجملة تجعل الأمر منوطا بتقدير المالك وتضعف قوة الإيجاب . على أن ما روي في سبب نزولها ومداخلة النبي بعد نزولها ، وما روي من مداخلة عمر قد يسوغ القول عن ولي الأمر يمكن أن يكون مرجعا في هذا التقرير ونافذ الأمر في القضية والله أعلم .
ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة { إن علمتم فيهم خيرا } حديثا مرسلا رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تفسير لها ونصه ( وإن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس } وروى الطبري أقوالا لعلماء تابعين تفيد أنها تعني القوة على الأداء وقوة الاحتراف والاكتساب أو الصدق والوفاء والأمانة والصلاح ، وكل هذا أيضا مما تتحمله الجملة .
وثانيا : هناك توسيع وتضييق في هوية المخاطب بجملة { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ؛ حيث قيل إنهم مالكو العبيد كما قيل : إنهم الميسورون عامة . والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر ؛ لأن به مساعدة على تحقيق أمر الله أكثر . والأمر على كل حال في الجملة قوي اللهجة في صدد مساعدة المكاتب على أداء بدل كتابته . ومن الجدير بالذكر أن تحرير الرقاب من جملة المصارف التي عينها القرآن للزكاة على ما سوف نشرحه في سياق الآية ( 60 ) من سورة التوبة .
وثالثا : لقد استنبط المؤولون والفقهاء من الجملة القرآنية { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } أن المملوك بمجرد أن يكاتب أي يتفق مع مالكه على شراء نفسه يصبح صاحب حق في كسبه وأهلا للزكاة من مالكه وغيره والتصرف فيهما نتيجة لذلك . والجمهور على أن مولى المكاتب بعد الاتفاق يفقد حق العودة عن مكاتبته والتصرف في مملوكه وأولاده تصرفه الأول من هبة وبيع واستغلال إلا إذا نكث ولم يف بما تعهد من أداء الأقساط حيث ينفسخ الاتفاق ويعود حق المالك على المملوك وأولاده كما كان ، وتظل صفة المملوكية نتيجة لذلك قائمة إلى أن يتم أداء بدل المكاتبة ، وحينما يتم يتحرر المملوك هو وأولاده .
ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه ( أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد ) {[1515]} وليس من تناقض بين هذا وبين ما تقدم كما هو ظاهر . ولقد روى أصحاب السنن حديث نبويا آخر عن أم سلمة قالت : ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب عنده ما يؤديه فلتحتجب منه ) {[1516]} حيث ينطوي في هذا : أن المكاتبة تخرج المملوك من صفة العبودية المطلقة بمجرد الاتفاق عليها فلا تعود مالكة المكاتب محرمة عليه ، ويكون عليها أن لا تبدي زينتها ومفاتنها أمامه ؛ لأن آية النور ( 31 ) أباحت لها ذلك أمام مملوكها .
ورابعا : هناك اختلاف في المكاتب المتوفى قبل أداء جميع ما عليه ، وكان له مال . فقد قال بعضهم : إن المكاتبة تنفسخ ويكون ما تركه من مال وأولاد ملكا لسيده . وقال بعضهم : إنها لا تنفسخ ، وإنه ليس للمالك إلا استيفاء ما بقي له من ماله ويكون أولاده أحرارا ويرثون ما فضل من مال أبيهم . والحق والوجاهة والاتساق مع هدف التشريع القرآني في جانب القول الثاني كما هو المتبادر ، ولقد أصبح المكاتب أهلا لكسبه وللزكاة والتصرف فيهما على ما شرحناه في الفقرة الثالثة .