تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

العفاف

{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 33 ) } .

التفسير :

33 - وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ . . . الآية .

وليستعفف : وليجتهد في العفة .

لا يجدون : لا يتمكنون من وسائله ، وهي المال وغيره .

الكتاب : والمكاتبة ، كالعتاب والمعاتبة ، يراد بها شرعا : إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال منجما ، أي : في موعدين أو أكثر ، فيقول له : كاتبتك على كذا درهم ، ويقبل المملوك ذلك ، فإذا أداه عتق وصار أحق بما كسبه ، كما صار أحق بنفسه .

الفتيات : واحدهن فتاة ، ويراد بالفتى والفتاة لغة : العبد والأمة .

البغاء : الزنا .

التحصن : العفة .

لتبتغوا : لتطلبوا عرض الحياة ، أي : الكسب ، وبيع الأولاد .

هذه الآية حلقة من سلسة الأحكام التي جاءت بها سورة الأحزاب وأكملتها سورة النور . فقد حثت الآية السابقة على الزواج ، وأمرت بتيسير سبله ، والمعاونة على إتمامه وإنجاحه ، حتى يتم الأمن والاستقرار للفرد وللأسرة وللمجتمع .

وهنا يحث القرآن من عجز عن الزواج لأي سبب من الأسباب ، أن يبحث عن العفة ، وأن يتمسك بأسبابها ، ومن أسباب العفة غض البصر ، والبعد عن أسباب الفتنة والإثارة ، وشغل الذهن بعمل نافع كتلاوة القرآن والبحث العلمي والعمل المفيد .

وفي ( إحياء علوم الدين ) يذكر أبو حامد الغزالي خمس وسائل لتدريب الإنسان على الاستقامة ، وهي المشارطة ، والمراقبة ، والمعاتبة ، والمحاسبة ، والمعاقبة .

فالمشارطة : أن يشرط على نفسه صباح كل يوم أن يستقيم ، ويبتعد عن أسباب المعصية ومهيجاتها .

والمراقبة : أن يكون رقيبا على نفسه ، وأن يشعرها برقابة الله عليها . روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سار في الصحراء فاشتد به الجوع ، فوجد عبدا يرعى أغناما ، فقال له : بعنا شاة نتغذى بها .

فقال العبد : إن الشياه ليست لي ولكنها لسيدي ، فقال له عمر : قل له : أكلها الذئب ، فقال العبد : يا هذا ، فأين الله ؟ فاشتراه عمر وأعتقه ، وقال له : هذه كلمة أعتقتك في الدنيا ، وأرجو أن تعتقك يوم القيامة .

والمعاتبة : أن يعاتب نفسه إذا قصرت في واجبها ، أو انحرفت عن طريق الحق .

والمحاسبة : أن يحاسب نفسه كل ليلة فإن وجد خيرا حمد الله ، وإن وجد أنه ارتكب معصية أو تقصيرا في حق الله لام نفسه ، وأشعر قلبه الندم ، وجدد العزم على التوبة والاستقامة .

والمعاقبة : هي عقوبة الإنسان لنفسه على الذنب ، بالصيام أو القيام أو التلاوة ، أو أي عقوبة يراها مناسبة .

وهذه المعاني يستشهد لها الغزالي بآيات من كتاب الله ، وأحاديث نبوية ، وآثار من هدى السلف ، فالمراقبة يستشهد لها بقوله تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا . ( النساء : 1 ) . وبقوله سبحانه : مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . ( المجادلة 7 ) . وقد أقسم الله بالنفس اللوامة ، وهي التي تلوم صاحبها على الذنب وتحثه على التوبة ، قال تعالى : لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة . ( القيامة : 1 ، 2 ) .

ويقول سبحانه : اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا . الإسراء : 14 )

وفي الأثر : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا )184 .

ويقول تعالى : أحصاه الله ونسوه . . . ( المجادلة : 6 ) .

ويقول تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .

العفة في الإسلام :

العفة سلوك عملي في الحياة للفرد والجماعة ، وهي مرتبطة بالتربية الإسلامية ، وباحترام القيم والمبادئ التي جاء بها الإسلام ، ومن هذه المبادئ ما يأتي :

1 – الإيمان بالله واليوم الآخر : وهذا الإيمان وحده ينبعث عنه أكمل الصفات الإنسانية والاجتماعية : من الإيثار ، والتضحية ، والحب ، والرحمة ، وإسداء الجميل ، والتعاون على البر والتقوى ، واحتمال مشاق الجهاد ، والبذل في سبيل الحق والخير ، وإقرار المثل العليا في أرض الله185 .

2 – الالتزام بآداب الإسلام وأداء فرائضه والتمسك بأحكامه ، فالإسلام نظام شامل يشمل البيت والمدرسة والمسجد والحياة كلها .

وتنحصر نواحي الإصلاح التي جاء بها الإسلام في هذه الأصول .

( أ‌ ) الربانية .

( ب‌ ) التسامي بالنفس الإنسانية .

( ث‌ ) تقرير عقيدة الجزاء .

( ج‌ ) إعلان الأخوة بين الناس .

( ح‌ ) النهوض بالرجل والمرأة جميعا ، وإعلان التكافل والمساواة بينهما ، وتحديد مهمة كل منهما تحديدا دقيقا .

( خ‌ ) تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملك والعمل والصحة ، والحرية والعلم والأمن لكل فرد ، وتحديد موارد الكسب .

( د‌ ) ضبط الغريزتين : غريزة حفظ النفس ، وغريزة حفظ النوع ، وتنظيم مطالب الفم والفرج .

( ذ‌ ) تأكيد وحدة الأمة ، والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها186 .

قال القرطبي :

1 – ( استعفف ) وزنه استفعل ، ومعناه : طلب أن يكون عفيفا ، فأمر الله تعالى بهذه الآية كل من تعذر عليه النكاح ، ولا يجده بأي وجه ، أن يستعفف ، ثم لما كان أغلب الموانع عن النكاح عدم المال ، وعد بالإغناء من فضله ، فيرزقه ما يتزوج به ، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق ، أو تزول عنه شهوة النساء .

2 – ظن جماعة من المفسرين أن المأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف ، وذلك ضعيف ، بل الأمر بالاستعفاف موجه لكل من تعذر عليه النكاح بأي وجه تعذر ، والله تعالى أعلم .

3 – من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطول فالمستحب له أن يتزوج ، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ، فإن أمن بالصوم فإن الصوم وجاء187 ، ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى وفي الخبر : ( خيركم الخفيف الحاذ188 الذي لا أهل له ولا ولد ) .

ولما لم يجعل الله بين العفة والنكاح درجة ، دل على أن ما عداهما محرم ، ولا يدخل في ذلك ملك اليمين ، لأنه بنص آخر مباح وهو قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم . . . ( النساء : 3 ) فجاءت فيه زيادة ، ويبقى على التحريم الاسثمناء ردا على أحمد ، وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه ، وقد تقدم هذا في أول ( المؤمنون )189 .

وقال القرطبي في أول سورة ( المؤمنون ) :

1 – قوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . ( المؤمنون : 5 ) . قال ابن العربي : من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء ، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم ، إلا قوله : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . فإنما خوطب الرجال خاصة دون الزوجات ، بدليل قوله تعالى : إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ . . . ( المؤمنون : 6 ) . وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخر كآيات الإحصان عموما وخصوصا ، وغير ذلك من الأدلة .

قلت : وعلى هذا التأويل في الآية ، فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء ، لأنها غير داخلة في الآية ، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها ، كما يجوز لغيره عند الجمهور190 .

2 – قال محمد بن عبد الحكم : سمعت حرملة بن العزيز قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة ، فتلا هذه الآية : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إلى قوله : العادون . وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة ، وفيه يقول الشاعر :

إذا حللت بواد لا أنيس به *** فاجلد عميرة لا داء ولا حرج

ويسميه أهل العراق الاستمناء ، استفعال من المنى ، وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه ، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة ، أصله الفصد والحجامة ، وعامة العلماء على تحريمه .

وقال بعض العلماء : إنه كالفاعل بنفسه ، وهي معصية أحدثها الشيطان ، وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة ، ويا ليتها لم تقل ، ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها ، فإن قيل : إنها خير من نكاح الأمة ، قلنا : نكاح الأمة – ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء – خير من هذا ، ولو كان قد قال به قائل أيضا ، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل ، عار بالرجل الدنئ ، فكيف بالرجل الكبير .

طريق القرآن :

لقد وضح القرآن طريق التسامي بالغرائز ، والعفة والبعد عن المحرمات واجتناب الشبهات ، وحث المؤمن على أن يجاهد نفسه وهواه ، وأن يصبر على ترك المعصية قال تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ . . .

وقد رسم القرآن من قصة يوسف مثلا أعلى للعفة والنزاهة والصبر ، ثم جعل الله يوسف على خزائن الأرض . ولما تنبه إخوته له :

قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . ( يوسف : 90 ) .

مكاتبة الرقيق :

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ . . .

أي : والمماليك الأرقاء الذين يرغبون في الكتبة – وهي العتق على مال معين – فينبغي أن تحقق رغبتهم في الحرية ، إذا كان العبد قادرا على الكسب عن طريق شريف .

ولقد جاء الإسلام والرق ظاهرة اجتماعية سائدة ، ولو ألغى الإسلام الرق لأدى ذلك إلى اضطراب في المجتمع ، لأن هؤلاء العبيد كانوا قد تعودوا على حياتهم ، ولأنه من الصعب أن يخسر المالك صفقة كبيرة من المال دفعة واحدة .

ولقد لجأ الإسلام إلى تشجيع المسلمين على تحرير الأرقاء ، فجعل عتق الرقبة كفارة لكثير من الأشياء ، مثل كفارة اليمين والظهار والفطر في نهار رمضان ، وحث المؤمن عل عتق الرقبة ابتداء تقربا لله ، قال تعالى : فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة . ( البلد : 11 – 14 ) .

والآية التي نفسرها تشجيع على المكاتبة ، وهي وسيلة عملية للتحرير .

1 – قال القرطبي :

الكتاب والمكاتبة سواء ، مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين ، لأنها معاقدة بين السيد وعبده ، يقال : كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة ، كما يقال : قاتل قتالا ومقاتلة . فالكتاب في الآية مصدر ، كالقتال والجلاد والدفاع . وقيل : الكتاب ها هنا هو الكتاب المعروف ، الذي يكتب فيه الشيء ، وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا ، يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم .

2 – قال القاسمي :

والمكاتبة أن يقول السيد : كاتبتك . أي : جعلت عتقك مكتوبا على نفسي ، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا ، ويقبل العبد ذلك ، فيصير مالكا لمكاسبه ولما يوهب له ، وإنما وجب معه الإمهال ، لأن الكسب لا يتصور بدونه ، واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعا ، وقوله تعالى : إن علمتم فيه خيرا . . . أي : كالأمانة ، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق ، والقدرة على الكسب والصلاح ، فلا يؤذى أحدا بعد العتق .

3 – قال في ( الإكليل ) :

في الآية مشروعية الكتابة ، وأنها مستحبة ، وقال أهل الظاهر : واجبة لظاهر الآية ، وأن لندبها أو وجوبها شرطين : طلب العبد لها ، وعلم الخير فيه ، وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة .

4 – ظاهر الإطلاق في قوله تعالى : فكاتبوهم . جواز الكتابة سواء أكان البدل حالا أم مؤجلا بنجم واحد أو أكثر ، وإلى ذلك ذهب الحنفية ، ومنع الشافعية الكتابة على بدل حال ، قالوا : إن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد ، وأيضا لو عقدت الكتابة حالة توجهت المطالبة للمكاتب في الحال وليس له مال يؤدى منه ، فيعجز عن الأداء ؛ فيرد إلى الرق ولا يحصل مقصود الكتابة . وكذلك منع الشافعية الكتابة على أقل من نجمين ، وسندهم في ذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام الإرفاق التنجيم ، ومع أن هذا الرأي مروى عن عمر وعثمان وابن عمر ، تراه خلاف ظاهر الآية ، ومستند الشافعية فيه ليس بالقوي191 .

وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ . . .

أي : أعطوا – أيها السادة – المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم ، وليس لكم فضل فيه ، فإن الله ربكم ورب عبيدكم . وأعطوا – أيها الحكام – المكاتبين سهامهم ، التي جعلها الله لهم في بيت المال ، في مصارف الزكاة يقول الله تعالى : وفي الرقاب . . . ( التوبة : 60 ) أي : في تحرير الأرقاء ، وفيه الأمر لعامة المسلمين بأن يساعدوا بسعة قلوبهم ، أيما مكاتب يطلب منهم المعونة لأداء ما عليه من مال الكتابة .

الإكراه عل البغاء :

وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .

سبب النزول :

روى جابر بن عبد الله ، وابن عباس – رضي الله عنهم – أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي ، وكانت له جاريتان ، إحداهما تسمى معاذة والأخرى مسيكة ، وكان يكرههما على الزنا ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد ، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين ، ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زوجها192 .

وقد وردت أكثر من رواية في سبب نزول الآية ، عن ابن عباس : أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا ، ويأخذون أجورهم ، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية . وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا ، أحدهما عبد الله بن أبي ، وقيل : كان له ست جوار أكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب ، فشكت اثنتان منهن ؛ فنزلت الآية .

ولا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه ، بل هي عامة في سائر المكلفين ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

البغاء في الجاهلية :

يطلق البغاء على الفجور ، أو بيع العرض وهو الزنا ، وكان البغاء في بلاد العرب على وجهين : البغاء في صورة النكاح ، والبغاء العام . ويمكن إلقاء ضوء عليهما فيما يأتي :

البغاء في صورة النكاح :

كانت تحترف به الجارية التي نالت حريتها وليس لها من يكفلها ، والحرة التي ليس لها بيت أو أسرة تضمها ، فكانت إحداهن تجلس في البيت ، وتعاهد في آن واحد عدة رجال على أن ينفقوا عليها ، ويقوموا بأمرها ، ويقضوا منها حاجاتهم ، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم حتى يجتمعوا عندها ؛ فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت وهو ابنك يا فلان ، فتسمي من أحبت منهم باسمه ، فيلحق به ولدها ، فكان هذا وجها من وجوه النكاح التي يتناكح بها أهل الجاهلية قبل الإسلام ، وربما سمى زواج العشرة ، نسبة إلى عدد الرجال الذين يتعاهدون المرأة ويقضون منها حاجاتهم .

ومن أنواع الزواج في الجاهلية زواج البضع ، ومنه زواج الشغار ، وغير ذلك . فلما جاء الإسلام ؛ أبطل جميع وجوه النكاح الرائجة في أهل الجاهلية ، ولم يقر منها إلا الزواج المعروف ، الذي لا يكون للمرأة فيه إلا زوج واحد معلوم .

البغاء العام :

أما البغاء العام فإن معظمه كان يتم بواسطة الإماء ، وهو على وجهين أيضا :

الأول : أن الناس كانوا يفرضون على الإماء الشابات مبلغا كبيرا من المال يتقاضونه منهن في كل شهر ، فكن يكسبن بالفجور ، لأنه لم يكن في وجوههن طريق غيره لكسب هذا المبلغ الكبير .

الثاني : يتم بأن يجلس الناس الشابات من إمائهم في الغرفات ، وينصبوا على أبوابهن رايات تكون علما لمن أراد أن يقضي منهن حاجته ، فكان هؤلاء النساء يعرفن بالقليقيات ، ويقال لبيوتهن : المواخير ، فكان لكثير من الرؤساء والوجهاء في العرب ، مثل هذه البيوت قبل الإسلام . وهذا عبد الله بن أبي رأس النفاق ، كان له ست إماء شابات جميلات يكرههن على البغاء طلبا لكسبهن ، ورغبة في أولادهن ليكثر منهم خدمه وحشمه ، وكان يقدمهن لمن ينزل عليه من الضيوف ، إرادة الثواب منهم والكرامة لهم . وقد ورد في سبب نزول الآية : أن إحدى هؤلاء الجواري أسلمت وأرادت التوبة ، ولكن عبد الله بن أبي أجبرها على البغاء فأنزل الله – عز وجل – هذه الآية .

إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا . . .

لقد حرم الله البغاء في جميع الظروف والأحوال ، ولكنه نص على هذه الحالة مراعاة لسبب النزول وزيادة في تقبيح حالهم ، والتشنيع عليهم ، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه ، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه ، ولا سيما عند إرادة التعفف والرغبة فيه .

لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . . .

أي : لا تفعلوا ذلك رغبة في متاع زائل من عرض الحياة الدنيا ، والبغاء محرم أصلا سواء رغب في عرض الحياة الدنيا أم لم يرغب ، فليس هو مدار النهي ، ( بل ذكر هنا لأنه المعتاد فيما بينهم ، كما قبله ، جيء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير ، أي : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال ، يعني من كسبهن وأولادهن )193 .

وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .

أي : ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن ، والذنب على المكره لهن .

وكان الحسن إذا قرأ الآية قال : لهن والله ، لهن والله .

واختار بعض العلماء أن المعنى : فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . لهم ، أي : للمكرهين ، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة ، وهو تأويل ضعيف لأن فيه تهوين أمر الإكراه على الزنا ، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين ، خاصة إذا أدركنا أن سبب النزول إسلام فتاة من فتيات عبد الله بن أبي ؛ ورغبتها في الطهارة ، ثم إكراهها على الزنا .

فكان الآية تأخذ بيد هذه الفتاة المسلمة ، وترفع عنها ذلة الإثم والمعصية ، وتشجعها على التوبة والاستقامة ، ما دامت صادقة الإيمان مستمسكة بالإسلام .

في أعقاب الآية :

وردت أحاديث نبوية صحيحة ، تنهي عن البغاء وتحرم ثمنه ، وتحث على إغلاق أبواب هذه التجارة المحرمة ، وتلزم المسلم ألا يأكل من كسب الأمة إلا إذا كان كسبا حلالا ، وعملا شريفا . فالزنا في حد ذاته حرام ، ودفع المال للزانية حرام أيضا ، والإسلام بهذا يغلق الأبواب أمام هذا الشر المستطير ، حتى يبحث المؤمن عن الزوجة والأسرة وإشباع العاطفة عن طريق مشروع .

روى الجماعة ، والإمام أحمد في مسنده ، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم مهر البغي194 .

وروى أبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، والنسائي ، عن رافع بن خديج : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عن مهر البغي – أي أجرة الزانية - : ( إنه خبيث وشر المكاسب )195 .

وروى أبو داود في كتاب الإجارة ، عن رافع بن خديج أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو196 .

وروى أحمد ، وأبو داود في كتاب الإجارة ، عن طارق بن عبد الرحمن القرشي ، قال : جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار فقال : نهانا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم اليوم ، فذكر أشياء ، ونهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها ، وقال هكذا بإصبعه نحو الخبز والغزل والنفش197 .