{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } عن الحرام { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ويوسّع عليهم من رزقه .
{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أَمته : قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سّماها كان حرّاً ، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه الى الرّقّ كما قال صلى الله عليه وسلم : " المكاتب عبد مابقي عليه درهم " وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع ، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب ، فسمّي المكاتب مكاتباً لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض .
{ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم : هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيراً إذا سأله ذلك بقيمته وأُكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه ، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، واحتّج من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه ، فشكاه الى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة ، واحتجّوا أيضاً بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب .
وروى عن عمر أنّه قال : هي عزمة من عزمات الله ، من سأل الكتابة كوتب .
وقال الآخرون : هو أمر ندب واستحباب ، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل ، وهو قول الشعبي والحسن البصري ، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء .
وأمّا قوله سبحانه { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فاختلفوا فيه ، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس : يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه ، وإليه ذهب الثوري .
وروى الوالبي عن ابن عباس قال : إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين . وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالاً ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، واستدلّوا بقوله
{ إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] .
قال الخليل : لو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيراً .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا هارون بن محمد قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا يحيى الحماني قال : حدّثنا أبو خالدالأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال : قال له عبد : كاتبني ، قال : لك مال ؟ قال : لا ، قال : تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه ، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد : يعني صدقاً ووفاء وأمانة ، وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة .
وقال الشافعي : أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة ، فأحبّ أن لايمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال : حدّثنا يحيى بن حمزة قال : أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة حق على الله عونهم : رجل خرج في سبيل الله سبحانه ، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ ، ورجل كاتب التماس الأداء " .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا يحيى الحماني قال : حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال : إن أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء ، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاث " الحديث .
وقال أبو حنيفة : يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقاً مميّزاً بناءً على أصله إذا كان مراهقاً كيّساً حراً فأذن له وليُّهُ في التصّرف نفذ تصرّفه ، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته .
واختلف الفقهاء في مال الكتابة ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهُ : تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنَّ الله سبحانه قال { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحَّ حالاًّ ومؤجّلاً كالبيع .
وقال الشافعي : لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلةً ، وأقلّه نجمان .
{ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلفوا فيه فقال بعضهم : الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئاً ، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم : هو ربع المال وهو قول علىّ ، وإليه ذهب الثوري .
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرَّحْمن السلمي أنّه كاتب غلاماً له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي : كان صديقك يفعل هذا ، يعني عليّاً كرم الله وجهه ، وقد روى ذلك مرفوعاً .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال : حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال : حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرَّحْمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال :
وقال آخرون : ليس فيه حدّ إنّما هو إليه ، يحطّ عنه من مال كتابته شيئاً .
روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال : كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعاً على عشرة آلاف فتركت لي ألفاً ، وروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أُسيد قال : كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفاً وردّ علىّ مائتين .
وقال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم .
قال سعيد بن جبير : وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ ، وعلى هذا القول قوله { وَآتُوهُمْ } أمر استحباب .
وقال بعضهم : معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله
{ وَفِي الرِّقَابِ } [ التوبة : 60 ] وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب .
وقال بريدة وإبراهيم : هو حثّ لجميع الناس على معونتهم .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد قال : حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَن أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته أو مجاهداً في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه " .
وأخبرني ابن فنجوية قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال : حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرَّحْمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا : جاءنا غلام لعثمان رضي الله عنه يقال له كيّس فقال : قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني فقلنا له : إنَّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال : أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر ، قال : فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء قال : كونوا بالباب ثم قال : ياكيّس تذكر يوم عركت أُذنك ، قلت : بلى يا سيّدي ، قال : ألم أنهك أن تقول يا سيدي ؟ قال : فلم يزل بي حتى ذكرت ، قال : قم فخذ بأذني قال : فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأُذنه فعركتها وهو يقول : شُدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال : حسبك ثم قال :واهاً للقضاء في الدنيا ، أُخرج فأنت حرّ وما معك لك .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ } الآية .
نزلت في معاذة ومُسيكة جاريتي عبد الله بن أُبي المنافق ، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شرّاً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أُبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أُجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأُميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أُخرى ببرد فقال لهما : ارجعا فازنيا فقالتا : والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا ، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أُبي أسر رجلاً من قريش يوم بدر ، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة ، فكانت تمتنع منه وكان ابن أُبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده ، فأنزل الله سبحانه { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ } إماءكم { عَلَى الْبِغَآءِ } أي الزنا .
{ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصُّناً ، ونظيره قوله سبحانه
{ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] وقوله
{ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] أي إذ ، وقوله
{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ]يعني إذ شاء الله والتحصّن : التعفّف .
وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها { وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّناً } ثم قال { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ } بعد ورود النهي { فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ } لهنّ { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والوزر على المكره ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهنّ والله لهن .