قوله{[34736]} : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } الآية{[34737]} .
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال : «وَلْيَسْتَعْفِفِ » أي : وليجتهد في العفة ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف .
وقوله : { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه ، قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ }{[34738]} [ النساء : 92 ] ويقال : هو غير واجد للماء{[34739]} ، وإن كان موجوداً ، إذا لم يمكنه أن يشتريه . ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال ، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح . فإن قيل : أفليس{[34740]} ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح ؟
قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى{[34741]} .
قوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ . . . } الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار ، فقال : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ }{[34742]} . يجوز في الذين الرفع على الابتداء ، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما{[34743]} تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال ، كقولك : «زيداً فاضربه »{[34744]} وهو أرجح لمكان الأمر . والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة ، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :
أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب ، وهو الضم والجمع ، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم{[34745]} بعضها إلى بعض ، وتضم ماله إلى ماله .
وثانيها : مأخوذ من الكتاب{[34746]} ، ومعناه : كتبت لك على نفسي ( أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي ){[34747]} أن تفي{[34748]} لي بذلك ، أو{[34749]} كتبت عليك الوفاء بالمال ، وكتبت عليَّ العتق{[34750]} ، قاله الأزهري{[34751]} .
وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه ، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب ، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه ، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً ، بل يقع مؤجلاً ، ليكون متمكناً من الاكتساب . ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب ، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل ، قال تعالى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }{[34752]} {[34753]} [ الرعد : 28 ] .
قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه{[34754]} : كاتبتك على كذا ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤديه في نجمين أو أكثر ، ويبين عدد النجوم ، وما يؤدي في كل نجم ، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر ، أو{[34755]} ينوي ذلك بقلبه ، ويقول العبد : قبلت{[34756]} .
فإذا لم يقل بلسانه ، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر ، لم يعتق{[34757]} .
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك ، لأن قوله تعالى : «فَكَاتِبُوهُمْ »{[34758]} ليس فيه شرط ، فتصح الكتابة بدون{[34759]} هذا الشرط ، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع . واحتج الأولون{[34760]} بأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، لأن ما في يد العبد ملك للسيّد ، والإنسان لا يبيع ملكه بملكه ، بل قوله : «كاتبتك » كناية في العتق ، فلا بد من لفظ التعليق أو نيته{[34761]} .
لا تجوز الكتابة{[34762]} الحالّة ، لأن العبد ليس له ملك يؤديه في الحال ، وإذا عقدت حالّة توجهت المطالبة عليه في الحال ، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل العقد ، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح ، بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز لأنه يتصور أن يكون له ملك في الباطن ، فالعجز{[34763]} لا يتحقق . وقال أبو حنيفة : تجوز لقوله تعالى «فكاتبوهم » ، وهو مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة . وأيضاً فمال الكتابة بدل عن{[34764]} الرقبة ، فهو بمنزلة أثمان السلع المبيعة ، فتجوز حالة . وأيضاً فأجمعوا على جواز العتق مطلقاً على مال حال ، فالكتابة مثله لأنه بدل عن العتق في الحالين ، إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط العبادة وفي الآخر معجل ، فوجب أن لا يختلف حكمهما{[34765]} .
لا تجوز الكتابة{[34766]} على أقل من نجمين ، لأنه يروى عن عليّ وعثمان وابن عمر ، روي أن عثمان غضب على عبده فقال : «لأضيقن عليك ، ولأكاتبنك{[34767]} على نجمين » ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل ، لأن التضييق فيه أشد ، وإنما شرطنا التنجيم ، لأنه عقد إرفاق ، ومن شرط الإرفاق : التنجيم ليتيسر عليهم الأداء .
وقال أبو حنيفة : تجوز الكتابة على نجم واحد ، لأن ظاهر قوله : «كاتبوهم » ليس فيه تقييد{[34768]} .
يشترط أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً . فإن كان صبياً أو مجنوناً لم تصح كتابته{[34769]} لقوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } والابتغاء لا يتصور من الصبي والمجنون .
وقال أبو حنيفة : تجوز كتابة الصبي ، ويقبل عنه ( المولى ){[34770]} {[34771]} .
ويشترط أن يكون السيد مكلفاً مطلقاً . فإن كان صبياً أو محجوراً عليه لسفه لم تصح كتابته ، كما لا يصح بيعه ، لأن قوله : «فَكَاتِبُوهُمْ » خطاب ، فلا يتناول غير المكلف .
وقال أبو حنيفة : تصحّ كتابة الصبيّ بإذن الوليّ{[34772]} .
اختلفوا في قوله تعالى : «فكاتبوهم » هل هو أمر إيجاب أو ندب ؟ فقيل : أمر إيجاب ، فيجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيراً ، فإن سأله بدون قيمته لم يلزمه ، وهذا قول ابن دينار{[34773]} وعطاء ، وإليه ذهب داود بن عليّ{[34774]} ومحمد بن جرير لظاهر الآية ، وأيضاً فلأن سبب نزولها إنما{[34775]} نزلت في غلام لحويطب{[34776]} بن عبد العزى يقال له : «صبيح » سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه ، فنزلت الآية ، فكاتبه على مائة دينار ووهب{[34777]} له منها عشرين ديناراً وروي أن عمر أمر أنساً بأن يكاتب سيرين ( أبا محمد بن سيرين ) فأبى ، فرفع عليه الدِّرَّة{[34778]} وضربه ، وقال : «فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمْ خَيْراً » وحلف عليه ليكاتبنه ، ولو لم يكن واجباً لكان ضربه بالدرة ظلماً ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فجرى ذلك مجرى الإجماع . وقال أكثر الفقهاء : إنه أمر استحباب ، وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد لقوله عليه السلام{[34779]} : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه »{[34780]} {[34781]} . ولأنه لا فرق بين أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة ، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة{[34782]} فإن قيل : كيف يصح أن يبيع ماله بماله ؟
فالجواب : إذا ورد الشرع به جاز ، كما إذا علق عتقه على مال يكسبه فيؤديه أو يؤدى عنه صار سبباً لعتقه{[34783]} .
فإن قيل : هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه لولا الكتابة ؟
فالجواب : نعم ، لأنه لو دفع إليه الزكاة قبل الكتابة لم يحل له أخذها ، وإذا صار مكاتباً حل له أخذها سواء أدى فعتق ، أو عجز فعاد إلى الرق . واستفاد أيضاً أن الكتابة تبعثه على الاجتهاد في الكسب ، ولولاها لم يكن ليفعل ذلك . ويستفيد المولى الثواب ، لأنه إذا باعه فلا ثواب ، وإذا كاتبه فالولاء له ، فورد الشرع بجواز الكتابة لهذه الفوائد{[34784]} .
قوله : { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال عليه السلام{[34785]} : «إن علمتم لهم حرفة ، ولا تدعوهم كلاًّ على الناس »{[34786]} . وقال ابن عمر : قوة على الكسب ، وهو قول مالك والثوري{[34787]} .
قال عطاء والحسن ومجاهد والضحاك : الخير : المال ، لقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً }{[34788]} [ البقرة : 180 ] أي : مالاً . قال عطاء : بلغني ذلك عن ابن عباس{[34789]} . ويروى أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني . قال : لك مال ؟ قال : لا . قال{[34790]} : تريد أن تطعمني أوساخ الناس ولم يكاتبه{[34791]} . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إنْ عَلِمْتُم لهم خيراً{[34792]} .
وأيضاً فلأن العبد لا مال له ، بل المال لسيده{[34793]} . وقال إبراهيم النخعي وابن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة{[34794]} . وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة{[34795]} .
وقال الحسن : صلاحاً في الدين{[34796]} . قال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبيد : الاكتساب مع الأمانة ، وأجاب ألا يمتنع من الكتابة إذا كان هكذا{[34797]} ، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما ، فإنه ينبغي أن يكون كسوباً يحصل المال ، ويكون أميناً يصرفه في نجومه ولا يضيعه{[34798]} .
قوله : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } . قيل : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى{[34799]} أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً ، وهو قول عثمان وعليّ والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي وهؤلاء اختلفوا في قدره : فقيل : يحط عنه{[34800]} ربع مال الكتابة ، وهو قول عليّ ، ورواه بعضهم عن عليّ مرفوعاً . وعن ابن عباس : يحط الثلث . وقيل : ليس له{[34801]} حد ، بل يختلف بكثرة المال وقلته ، وهو قول الشافعي ، لأن ابن عمر كاتب غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم .
وقيل : يحط عنه قدراً يحصل الاستغناء به . قال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب{[34802]} . وكاتب عمر عبداً ، فجاءه بنجمه ، فقال : اذهب فاستغن على أداء مال الكتابة ، فقال المكاتب : لو تركته إلى آخر نجم فقال : إني أخاف ألا أدرك ذلك{[34803]} .
وقيل{[34804]} : هو أمر استحباب ، لقوله عليه السلام{[34805]} : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم »{[34806]} وقوله عليه السلام{[34807]} : «أيما عبد كاتب على مائة فأداها إلا عشرة فهو عبد »{[34808]} . ولو كان الحط واجباً سقط عنه بقدره ، وأيضاً فلو كان الإيتاء واجباً لكان وجوبه معلقاً بالعقد ، فيكون{[34809]} العقد موجباً له ومسقطاً له ، وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب .
وأيضاً فلو كان الحط واجباً لما احتاج أن يضع عنه ، بل كان يسقط القدر المستحق ، كمن له على إنسان دين ، ثم لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قابضاً له . وأيضاً فلو كان واجباً لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً ، فإن كان معلوماً وجب ألا تكون الكتابة بثلاثة أرباع المال على قول من يجعله الربع ، فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف إذا كان العقد على أربعة آلاف ، وذلك باطل ، لأن أداء جميعها شرط ، فلا يعتق بأداء البعض لقوله عليه السلام{[34810]} : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم »{[34811]} . وإن كان مجهولاً صارت الكتابة مجهولة ، لأن الباقي بعد الحط مجهول ، فلا يصح ، كما لو كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء{[34812]} .
وقال قوم : المراد بقوله : «وآتُوهُم » أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله : «وَفِي الرّقَابِ »{[34813]} وهو قول الحسن وزيد بن أسلم ، ورواية عطاء عن ابن عباس . وعلى هذا الخطاب لغير السادة ، لأنهم أجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع زكاته إلى مكاتبه{[34814]} . وقال الكلبي وعكرمة وإبراهيم : هو خطاب لجميع الناس ، وحث على معونة المكاتب ، لقوله عليه السلام : «من أعان مكاتباً في فك رقبته أطلقه الله في ظل عرشه »{[34815]} {[34816]} .
إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم . فقيل : يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد{[34817]} . وقيل : إن ترك وفاء لما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل فالزيادة{[34818]} لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء{[34819]} وطاوس والنخعي والحسن ، وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي{[34820]} .
فصل{[34821]}
ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال ، لأن عتقه معلق{[34822]} بالأداء ، وقد وجد ، ويتبعه الأولاد والأكساب كما في الكتابة الصحيحة . ويفترقان في بعض الأحكام ، وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء من النجوم . والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ، وتبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء من النجوم . وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع{[34823]} المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء . . . } الآية لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء{[34824]} على الفجور{[34825]} .
واعلم أن العرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ }{[34826]} [ الكهف : 62 ] وقال : «تُرَاوِدُ فَتَاهَا »{[34827]} وقال : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ }{[34828]} [ النساء : 25 ] .
وقال عليه السلام{[34829]} : «ليقل أحدكم : فَتَاي وفَتَاتي ، ولا يقل : عَبْدِي وأَمَتِي »{[34830]} {[34831]} .
والبِغَاء : الزنا ، مصدر{[34832]} : بَغَتِ المَرْأَة تَبْغي بِغَاءً{[34833]} ، أي : زَنَتْ ، وهو مختص بزنا النساء{[34834]} .
قال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبيّ المنافق ، كان له ست جوار{[34835]} مُعَاذة ، ومُسَيْكة ، وأُمَيْمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقتيلة ، يكرههن{[34836]} على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب يأخذها ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون{[34837]} إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين : فإن يكن خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن كان شراً{[34838]} فقد آن لنا أن ندعه فشكيا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية{[34839]} . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : «ارجعا فازنيا » فقالتا : «والله لا نفعل وقد جاء الإسلام وحرم الزنا » فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكيا إليه ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية{[34840]} . وروي أن عبد الله بن أبيّ أسر رجلاً ، فأراد الأسير جارية عبد الله ، وكانت الجارية مسلمة ، فامتنعت الجارية لإسلامها ، فأكرهها سيدها على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده ، فنزلت الآية{[34841]} . وروى أبو صالح{[34842]} عن ابن عباس قال : «جاء عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جارية من أجمل النساء تسمى : معاذة ، وقال : يا رسول الله ، هذه لأيتام فلان ، أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها . فقال عليه السلام{[34843]} : لا . فأعاد الكلام ، فنزلت الآية{[34844]} .
الإكراه إنما يحصل بالتخويف بما يقتضي تلف النفس .
ومعنى قوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : إذا أرَدْنَ ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردْن تحصناً ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ{[34845]} } [ آل عمران : 139 ] أي : إذ{[34846]} كنتم مؤمنين{[34847]} . وقيل : إنما شرط إرادة التحصن ، لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعاً ، لأنه متى لم توجد إرادة التحصن لم تكن كارهة للزنا ، وكونها غير كارهة للزنا يمنع إكراهها ، فامتنع الإكراه لامتناعه في نفسه{[34848]} . وقيل : هذا الشرط لا مفهوم له ، لأنه خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن ، كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ، ولكن{[34849]} لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ }{[34850]} [ البقرة : 229 ] ( مفهوم ) {[34851]} ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض{[34852]} فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا }{[34853]} [ النساء : 101 ] والقصر{[34854]} لا يختص بحال الخوف ، ولكنه أخرجه على الغالب ، فكذا ههنا{[34855]} . وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً ولا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُم على البِغَاءِ{[34856]} لتبتغوا عرض الحياةِ الدُّنيا{[34857]} ، أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد : من كسبهن وبيع أولادهن . والتحصن : التعفف .
قوله : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أي : غفور رحيم للمكرهات ، والوزر على المُكْرِه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : ( لهنَّ والله ){[34858]} .
أحدهما : غَفُوراً{[34859]} لَهُنَّ ، لأنّ الإكراه ( يُزِيلُ الإثم ) {[34860]} والعقوبة عن المكره فيما فعل .
والثاني : ( فإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ) {[34861]} بالمكره بشرط التوبة . وهذا ضعيف لأنه يحتاج إلى الإضمار ، والأول لا يحتاج إليه{[34862]} . وفي هذا نظر ، لأنه لا بد من ضمير يعود على اسم الشرط عند الجمهور كما تقدم تحقيقه ( في البقرة ){[34863]} {[34864]} .
قوله : «فإن الله » جملة وقعت جواباً للشرط ، والعائد على اسم الشرط محذوف ، تقديره : غَفُور لهم{[34865]} . وقدره الزمخشري في أحد تقديراته{[34866]} وابن عطية{[34867]} وأبو البقاء{[34868]} : فإن الله غفور لَهُنَّ ، أي : لِلْمُكرهات ، فعرِيَتْ جملة الجزاء عن{[34869]} رابط يربطها باسم الشرط ، ولا يقال : إن الرابط هو الضمير المقدر الذي هو فاعل المصدر ؛ إذ التقدير : من بعد إكراههم{[34870]} لهُنّ ، فَلْيُكْتَفَ{[34871]} بهذا الرابط المقدر ، لأنهم لم يعدوا ذلك من الروابط ، تقول : هند عجبت من ضربها زيداً{[34872]} فهذا جائز ، ولو قُلْتَ : هند عجبت من ضربِ زيدٍ : أي : من ضربها ، لَمْ يَجُز ، لخلوها من الرابط وإن كان مقدراً{[34873]} . ولما قدر الزمخشري «لهن » أورد سؤالاً فقال : فإن قلت : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ، لأن المُكرهة على الزنا بخلاف المُكره{[34874]} غير آثمة . قلت : لَعَلَّ الإكراه غير ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل{[34875]} ، أو بما يُخَاف منه التلف ، أو فوات عضو حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تُعذَرُ فيه فتكون آثمة{[34876]} .