لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

قوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } يعني ليطلب العفة عن الزنا والحرام الذين لا يجدون ما ينكحون به من الصدق والنفقة { حتى يغنيهم الله من فضله } يعني يوسع عليهم من رزقه { والذين يبتغون الكتاب } يعني يطلبون المكاتبة { مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم } سبب نزول هذه الآية أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها وقتل يوم حنين في الحرب ، بيان حكم الآية وكيفية المكاتبة وذلك أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ويسمى مالاً معلوماً تؤدي ذلك في نجمين أو في نجوم معلومة في كل نجم كذا فإذا أديت ذلك فأنت حر ويقبل العبد ذلك ، فإذا أدى العبد ذلك المال عتق ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة وإذا عتق بأداء المال فما فضل في يده من المال فهو له ويتبعه أولاده الذين حصلوا في الكتابة في العتق وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق وما في يده من المال فهو لسيده لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه « المكاتب عبد ما بقي عليه درهم » أخرجه أبو داود وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى { فكاتبوهم } أمر إيجاب يجب على السيد أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك على قيمته أو على أكثر من قيمته وإن سأل على أقل من قيمته لا يجب وهو قول عطاء وعمرو بن دينار لما روي أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه وكان كثير المال فانطلق سيرين إلى عمر فشكاه فدعاه عمر فقال له : كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا فكاتبوهم { إن علمتم فيهم خيراً } فكاتبه وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل فيحصل المقصود . وجوز أبو حنيفة الكتابة إلى نجم وحالة واحدة واختلفوا في معنى قوله { إن علمتم فيهم خيراً } فقال أبن عمر قوة على الكسب وهو قول مالك والثوري وقيل مالاً ، روي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له : كاتبني قال ألك مال قال لا قال تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ولم يكاتبه قيل لو أراد به المال لقال أن علمتم لهم خيراً وقيل صدقاً وأمانة . وقال الشافعي : أظهر معاني الخير في العبد الاكتساب مع الأمانة فأحب أن لا يمنع من المكاتبة إذا كان هكذا وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله » أخرجه الترمذي والنسائي وقيل معنى الخير أن يكون العبد عاقلاً بالغاً فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق وقوله تعالى { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } قيل هو خطاب للموالي فيجب على السيد أن يحط عن مكاتبه من مال الكتابة شيئاً وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة . وبه قال الشافعي ثم اختلفوا في قدر ما يحط فقيل يحط الربع وهو قول علي ورواه بعضهم مرفوعاً . وقال ابن عباس : يحط الثالث وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وبه قال الشافعي قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف درهم أخرجه مالك في الموطأ . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبة لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ويضع عنه من آخر كتابته ما أحب وقال بعضهم هو أمر استحباب والوجوب أظهر وقيل أراد بقوله { وآتوهم من مال الله } أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات وهو قوله وفي الرقاب أراد به المكاتب وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقيل : هو حث لجميع الناس على مؤنتهم واختلف العلماء فيما إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً وترتفع الكتابة سواء ترك مالاً أو لم يترك وهو قول عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة وإليه ذهب الشافعي وأحمد ، وقال قوم : إن ترك وفاء ما بقي عليه من مال الكتابة كان حراً وإن فضل له مال كان لأولاده الأحرار . وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء وقد وجد وتتبعه أولاده وأكسابه كما في الكتابة الصحيحة لأن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم .

وقوله تعالى :{ ولا تكرهوا فتياتكم } أي إماءكم { على البغاء } أي الزنا { إن أردن تحصناً } الآية ( م ) عن جابر قال كان عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئاً قال فأنزل الله { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً } وفي رواية أخرى أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } إلى قوله { غفور رحيم } وقال المفسرون : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق كانت له جاريتان يقال لهما مسيكة ومعاذة وكان يكرههما على الزنا لضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤجرون إماءهم فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه فأنزل الله هذه الآية وروي أن إحدى الجاريتين جاءت ببرد ، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما ارجعا فازنيا فقالتا : والله لا نفعل قد جاء الإسلام ، وحرم الزنا فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف العلماء في معنى قوله إن أردن تحصناً على أقوال أحدها : أن الكلام ورد على سبب وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية ، فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه الثاني : إنما شرط إرادة التحصن لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن ، فأمّا إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها تبغي بالطبع طوعهاً الثالث : أن إن بمعنى إذا أي إذا أردن وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا إن لم يردن تحصناً ، كقوله { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي إذا كنتم القول الرابع : أن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً تقديره وأنكحوا الأيامى منكم إن أردتم تحصناً ، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء { لتبتغوا } أي لتطلبوا { عرض الحياة الدنيا } أي من أموال الدنيا يريد كسبهن ، وبين أولادهن { ومن يكرههن } يعني على الزنا { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } يعني للمكروهات والوزر على المكره ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن والله لهن والله .