تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

الآية 33 : وقوله تعالى : ]وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله[ الاستعفاف ، هو طلب العفاف ؛ كأنه قال : يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنى ، وتصيره عفيفا ، حتى يغنيه الله من فضله .

وأسباب العفة تكون بأشياء{[13960]} : أحدها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ( البخاري : 5065 ) .

وبنحوه {[13961]} : يكتسب أسباب العفة إن لم يكن عنده ما ينكح حتى لا يقع في الزنى إلى أن يغنيه{[13962]} الله ، كقوله عليه السلام : " من استعف أعفه الله " ( النسائي : 5/98 ) .

وجائز أن يكون قوله : ]وليستعفف الذين[ أي ليتعفف الذين ]لا يجدون نكاحا[ لم يجعل الله سبحانه وتعالى للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج/368- أ/ والاستمتاع بها إذا لم يكن عنده ما ينكح كما جعل في الأموال وغيرها رخصة التناول من ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل لوجوه .

( أحدها ){[13963]} : أن رخصة التناول من ملك غير إنما تكون عند الضرورة . والضرورات لا تقع في الفروج وفي الاستمتاع بها بحال ، لذلك لم تبح .

والثاني : الاستمتاع بالنساء في الأصل كان إنما جعل ، وأبيح لبقاء النسل والتوالد لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة . فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد .

والثالث : أن السعة والغنى وأنواع النعم هي الداعية على الحاجة وقضاء الشهوة . فإذا كان فقيرا ، لا يجد ما ينكح ، زال عنه الأسباب التي تدعوه إلى ذلك . لذلك لم يبح .

وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا فكلها تقع في الأموال . وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم وإبقائها . لذلك افترقا ، والله أعلم .

ثم في قوله ]يغنيهم الله من فضله[ وقوله : ]حتى يغنيهم الله من فضله[ {[13964]} وجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة : أحدهما : أنه أضاف الإغناء إلى نفسه ، وهو ليس يعطي أحدا شيئا ، يطرحه ، ويلقيه في بدء بلا سبب ولكن غنما يغنيه ، ويعطيه{[13965]} ، بأسباب ( يجعلها له . فدلت ){[13966]} إ ، ضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي ( للناس بها غنى ){[13967]} صنعا وفعلا ، ليس على ما تقوله المعتزلة : إنه لا صنع لله في أفعال عباده .

والثاني : فيه دلالة أن غناهم وسعتهم فضل منه{[13968]} ورحمة ، لا شيء يستوجبه{[13969]} بأنفسهم ( قبله . لكنه إفضال منه لهم وإحسان ){[13970]} إذ لو كان عليه{[13971]} ذلك كان منه عدلا ، لا فضلا .

فدلت تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه الله يقال : أعطاه ذلك فضلا منه وإنعاما لا استيجابا واستحقاقا . وذلك رد عليهم في الأصلح في الدين .

ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله : ]يغنيهم الله من فضله[ وقوله ]حتى يغنيهم الله من فضله[ على تفضيل الغنى على الفقر ؛ فقالوا{[13972]} : لأنه سماه فضلا بقوله : ]من فضله[ وسماه في غير آية من القرآن رحمة وحسنة وسماه خيرا أيضا في غير موضع ، وسمى الفقر والضيق بلاء مرة ، وسيئة ثانيا ، وضرا وشدة ثالثا{[13973]} بقوله ]وبلوناهم بالحسنات والسيئات[ ( الأعراف : 168 ) وقوله{[13974]} [ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ] الأنبياء : 35 ) وقوله : ]هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته[ ( الزمر : 38 ) وغير ذلك من الآيات .

وكان ما سمى من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكتابة عن الضيق والفقر ، وما ذكر من الخير والرحمة ونحوها كله عبارة عن السعة والغنى .

فدلت تسمية الغنى خيرا وحسنة ورحمة على أنه أفضل ؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء . لذلك كان الغنى أفضل من الفقر .

فيقال لهم : هو كما قلتم : إنها خير مما ذكرتم .

إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد والباعثة على قضاء الحاجات والشهوات وأنواع المعاصي والمحرمات ، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة ، بل هن أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات فضلا أن تدعوه ، وتبعثه إلى ذلك .

فقولنا : إنه أفضل للمعنى الذي ذكرنا لا لمعنى فهمتموه أنتم ، أو أن يكون ما ذكر وسمي خيرا ؛ أعني السعة عند الناس ، وكذلك ما ذكر من الضيق شرا وسيئة عندهم ، لأنه ذلك عند الناس ، لا إنهما في الحقيقة كذلك لما يحتمل أن يكون الغنى والسعة سبب الفساد ، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد ، أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر ؛ إذ هما محنتان يمتحن ( الله ){[13975]} بهما العباد ؛ هؤلاء بالصبر على الفقر والضيق ، وهؤلاء بالشكر على النعمة والسعة . والتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ]والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم[ ظاهر هذا ليس على الكتابة ، ولكن على الكتاب المعروف ، وهو كتاب الله تعالى ، لأن الكتاب المطلق ، هو كتاب الله تعالى ؛ يسالون ساداتهم تعليم الكتاب لهم . إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا ، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حين صرفوا الآية إليها .

ثم قوله تعالى : [ فكاتبوهم ] ليس على الوجوب و الإلزام ، ولكن على الترغيب فيها والحث . دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم مواريث لورثتهم من لدن رسول الله إلى يومنا هذا .

ولو كان على الوجوب واللزوم لم يكونوا يتركونه لازما واجبا عليهم . فدل تركهم ذلك على أنه خرج مخرج الترغيب ( فيها والحث عليها ){[13976]} لا على الوجوب ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ]فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا[ اختلف فيه : قال بعضهم : أي كاتبوهم إن علمتم أنهم في أنواع الخير وإقامة الصلاة وأنواع الصلاح ، وفرغوا أنفسهم لذلك .

قال بعضهم : ]إن علمتم فيهم خيرا[ أي وفاء وأمانة وصلاحا ، وهو قول الحسن . وتأويل هذا : أي كاتبوهم إذ علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا أو أداء ذلك .

وقال قائلون : ( خيرا[ أي حيلة . وقال قائلون : مالا ، وقال قائلون ]خيرا[ أي حرفة ، ورووا في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرا عن يحيى بن أبي{[13977]} كثير " إن علمتم ( منهم حرفة ){[13978]} فلا ترسلوهم كلابا على الناس " ( البيهقي في السنن الكبرى 10/317 ) .

إن ثبت هذا فلا{[13979]} يحتاج إلى غيره من التفسير . لو كان قال : إن علمتم لهم{[13980]} خيرا جاز أن يقال : معنى ذلك مال{[13981]} ولكنه قال : ]إن علمتم فيهم خيرا[ والمال لا يكون فيهم ، وإنما يكون لهم . فأشبه ذلك ، والله أعلم أن يكون الخير حرفة لما{[13982]} روي في الخبر أنه وفاء وأمانة .

ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئا ، لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ، ويحثهم على العتاق دون الكتابة . فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى .

وفي الكتابة أيضا نظر للموالي لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أو أدائه . وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم ، ولو كان عتقا لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم ، ويبطل حقهم بلا شيء ، يصل إليهم ، والله أعلم .

وفي قوله تعالى : ]فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا[ دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به حين{[13983]} قال : ]إن علمتم فيهم خيرا[ وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الجزفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله . وتلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة .

وفيه دلالة بالاجتهاد على ما يرى بهم من مظاهر الأسباب والله أعلم .

وقوله تعالى : ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[ اختلف في خطابه .

قال الحسن وغيره : هو شيء ، حث الناس عليه مولاه وغيره . فيخرج ذلك على وجهين : أحدهما : ما جعل الله من الحق للمكاتبين في الصدقات لقوله تعالى : ]إنما الصدقات للفقراء[ إلى قوله : ]وفي الرقاب[ ( التوبة : 60 ) وهم المكاتبون . أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات على المكاتبين ، وجعلهم أهلا لها ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة . فإن كان ذلك فذلك حق لهم .

والثاني : جائز أن يأمر الناس بمعونة هؤلاء المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب .

وقال /368- ب/ قائلون : إنما الخطاب للموالي خاصة لما أن أول الخطاب بالكتابة راجع على الموالي . فعلى ذلك هذا . ثم اختلفوا فيه .

روي عن علي رضي الله عنه ( أنه ){[13984]} قال : يترك المولى{[13985]} الثلث من مكاتبته له ، وروي عنه أنه قال : ربع المكاتبة له . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كاتب غلاما له ، فحط عنه أول نجومه ، وقال له ، حط عني أخره ، فقال عمر رضي الله عنه : لعلي ، لا أصل إليه ، أو كلاما{[13986]} نحو هذا ، ثم تلا هذه الآية : قوله : ]والذين يبتغون الكتاب[ الآية .

وروي عنه غلام لعثمان بن عفان رضي الله عنه ( أنه ){[13987]} قال : كاتبني عثمان رضي الله عنه ولم يحط عني شيئا . دل ما روي عن عثمان أنه لم يحط عنه شيئا على أن الأمر بالإيتاء للمكاتبين من الأموال والحط عنهم إنما هو على الاختيار والإفضال ، وليس على الوجوب واللزوم ، لأنه لو كان على الوجوب لكان عثمان بن عفان لا يحتمل ألا يحط عنه شيئا .

ومن جعل ذلك واجبا على المولى أن يؤتيه من ماله ، ويعجله له كان ذلك خارجا عما روي عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين خلافا لهم ، لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم والوضع دون الإيتاء من مالهم{[13988]} .

وروي عن بعضهم : الاستيفاء على الكمال ، لاحط فيه ولا إيتاء . دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج من قولهم جملة . ثم يبطل ذلك من وجهين : أحدهما : أن من قال لعبده : إذا أديت إلي كذا فأنت حر ، فحط عن بعض ذلك ، فادى البقية ، لم يعتق حتى يؤدي الكل ، فدل أن قوله : ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[ ليس على الوجوب ولكن على الاختيار .

والثاني : أنه لا يسمى بعد الأداء مكاتبا ، وإنما هو حر ، وإنما ذكر الإيتاء إياهم ، وهم مكاتبون حين{[13989]} قال : ]فكاتبوهم[ ثم قال : ]وآتوهم[ ثم قال : ]وآتوهم[ فلو كان على ما يقوله قوم لكان باطلا للوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ]ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أدرن تحصنا[ بشر منه ، لأنهن لا يكرهن على البغاء ، وإن لم يردن التحصن . دل ذلك ليس بشرط فيه ، ولا يتمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه ، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة .

كانوا يكرهونهن على الزنى ابتغاء المال ، وهن كن يردن التحصن ، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم دون أن يكون ذلك شرطا فيه ، أو أن يكون ذلك إكراها إذا كن مطاوعات في ذلك .

وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها لأنهم كانوا يكرهون إماءهم أن يؤاجرن أنفسهن للزنى ابتغاء الأجر ، وليست المتعة إلا كذلك .

وقال أهل التأويل : إن الآية نزلت في نفر المنافقين : عبد الله بن أبي وفلان وفلان ، كانوا يكرهون فتياتهم على الزنى ابتغاء عرض الدنيا . فإن كان ما ذكروا ففيه دلالة أن الزنى حرام في الأديان كلها .

وقوله تعالى : ]ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ] هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يرجع إلى الإماء ؛ يقول : [ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم[ لهن ، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ{[13990]} : ]فإن الله من بعد إكراههن[ لهن ]غفور رحيم( .

والثاني : يرجع إلى السادات ]فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم[ لهم إذا تابوا ، وأصلحوا ، والله أعلم .


[13960]:في الأصل وم: أشياء.
[13961]:في الأصل وم: ونحوه.
[13962]:في الأصل وم: أغناه.
[13963]:ساقطة من الأصل وم.
[13964]:من م، ساقطة من الأصل.
[13965]:في الأصل وم: ويعطيها.
[13966]:في الأصل وم: تجعل لهم فدل.
[13967]:في الأصل وم: مالهم غناء.
[13968]:في الأصل وم: منهم.
[13969]:في الأصل وم: يستوجبون هم.
[13970]:في الأصل وم: ذلك قبله لكن إفضالا منهم لهم وإحسانا.
[13971]:من م، في الأصل، حكمه.
[13972]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[13973]:ساقطة من م.
[13974]:في الأصل وم: وقال.
[13975]:ساقطة من الأصل وم.
[13976]:في الأصل وم: عليها والحث.
[13977]:ساقطة من الأصل وم.
[13978]:في الأصل: فيهم خيرا أي حركة، في م: فيهم خيرا أي حرفة.
[13979]:الفاء ساقطة من الأصل وم.
[13980]:في الأصل وم: فيهم.
[13981]:في الأصل وم: مالا.
[13982]:في الأصل وم: الجباء.
[13983]:في الأصل وم: حيث.
[13984]:ساقطة من الأصل وم.
[13985]:في الأصل وم: الموالي.
[13986]:في الأصل وم :كلام.
[13987]:ساقطة من الأصل وم.
[13988]:في الأصل وم: ماله.
[13989]:في الأصل وم: حيث.
[13990]:انظر معجم القراءات القرآنية ج4/251.