غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱلَّذِينَ يَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِيهِمۡ خَيۡرٗاۖ وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ ءَاتَىٰكُمۡۚ وَلَا تُكۡرِهُواْ فَتَيَٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَآءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنٗا لِّتَبۡتَغُواْ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَمَن يُكۡرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَٰهِهِنَّ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (33)

ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله { وليستعفف } أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه ، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف . وفي قوله { حتى يغنيهم } نوع تأميل للمستعففين . وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب .

الحكم السابع : المكاتبة : وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال { والذين يبتغون } ومحله إما رفع والخبر { فكاتبوهم } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره { فكاتبوهم } والفاء للإيذان يتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض . وقال الأزهري : هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفس أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليَّ العتق ، وقيل : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجباً عند الشافعي وندباً عند أبي حنيفة كما تجيء . والأجل يستدعي الكتابة لقوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] قال محي السنة : الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى مالا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم ، وما يؤدى في كل نجم ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه . ويقول العبد : قبلت وفي هذا الضبط أبحاث : الأول قال الشافعي : إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينوِ بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، فإن ما في يد العبد فهو ملك لا سيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه . فقوله " كاتبتك " كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته . وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر : لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله { فكاتبوهم } وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع . الثاني : لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال . وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية ، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق ، فالكتابة أيضا مثله . الثالث : قال الشافعي : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين . روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر . وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام الإرفاق التنجيم ، وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود . الرابع : جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال : ويقبل عنه المولى . وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلاً بالغاً لأنه تعالى قال { والذين يبتغون } والصبي لا يتصور منه الطلب . الخامس : جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفاً مطلقاً ، لأن قوله { فكاتبوهم } خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله { فكاتبوهم } أمر إيجاب أو استحباب ، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيراً ، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت . ويروى أن عمر أمر إنساناً بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين ، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه . وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب من قلبه " ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة ، وهذه طريقة المعاوضات أجمع . قال العلماء : إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له ، ومن هنا يكسب مولاه الثواب .

أما قوله { إن علمتم فيهم خيراً } قال عطاء : الخير هو المال كقوله { إن ترك خيراً }

[ البقرة : 180 ] قال : بلغني ذلك عن ابن عباس . وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال ، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده ، وعن ابن سيرين : أراد إذا صلى . وعن النخعي : وفاء وصدقاً . وقال الحسن : صلاحاً في الدين . والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب . ويروى مثله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه . واختلفوا أيضاً في المخاطب بقوله { وآتوهم } فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة ، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال ، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب . والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما قاله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة " هو لها صدقة ولنا هدية " وعن كثير من الصحابة وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئاً من أموالهم ، أو يحطوا عنهم جزءاً من مال الكتابة . ثم اختلفوا في قدره فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له بخمسة وثلاثين ألفاً ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع . والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول . عن ابن عباس : يضع له من كتابته شيئاً . وعن عمر أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام ، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال : استعن به على مكاتبتك . فقال : لو أخرته إلى آخر نجم ، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك ، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال " إيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلاّ عشر أواق فهو عبد " فلو كان الحط واجباً لأسقط عنه بقدره ، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم . وأيضا لو كان الحط واجباً فإن كان معلوماً لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق ، ولو كان مجهولاً لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولاً فلا تصح الكتابة . وأيضاً أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس ، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم قال صلى الله عليه وسلم " من أعان مكاتباً في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه " . الحكم الثامن : المنع من إكراه الإماء على الزنا : كان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرهن على البغاء - أي الزنا- فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] والنص وإن كان مختصاً بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضاً كذلك .

والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن . والجواب بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم غرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان ، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلاً لامتناعه في ذاته . وقد يقال : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخكاب كما مر في قوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } [ النساء : 101 ] وقيل : " إن " بمعنى " إذ " لأن سبب النزول وارد على ذلك . قال جار الله : أوثرت كلمة " أن " على " إذ " إيذاناً بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر . وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها . و { عرض الحياة الدنيا } كسبهن وأولادهن { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة ، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ .

/خ34