قوله تعالى : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ، وكان اسمهما أصرم وصريم ، { وكان تحته كنز لهما } ، اختلفوا في ذلك الكنز ، اختلفوا في ذلك الكنز : روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان ذهباً وفضه . وقال عكرمة : كان مالاً . وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفاً فيها علم . وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن الموت كيف يفرح ؟ عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل : عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ؟ عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب ؟ عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي الجانب الآخر مكتوب : أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وهذا قول أكثر المفسرين . وروي أيضاً ذلك مرفوعاً . قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعاً لهما . { وكان أبوهما صالحاً } ، قيل : كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما . وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء . قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده ، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي . قوله عز وجل : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثمان عشرة سنة . { ويستخرجا } حينئذ { كنزهما رحمة } نعمة { من ربك } . { وما فعلته عن أمري } أي باختياري ورأيي ، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ، { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي لم تطق عليه صبراً ، واستطاع واسطاع بمعنى واحد . روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به . واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة ، وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته ، فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكراً لله عز وجل ، وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده .
( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر
مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى : وأما الحائط الذي أقمته ، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنزلهما .
اختلف أهل التأويل في ذكل الكنز ، فقال بعضهم : كان صُحُفا فيها علِم مدفونة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان تحته كنْزُ علم .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعيد بن جبير : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان كنز علم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صحف لغلامين فيها علم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صحف علم .
حدثني أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : حدثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية ، قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله عزّ وجلّ : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : سطران ونصف ، لم يتمّ الثالث : «عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح » وقد قال : وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قالت : وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء ، كان نساجا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا الحسن بن ندبة ، قال : حدثنا سلمة بن محمد ، عن نعيم العنبريّ ، وكان من جُلساء الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : «بسم الله الرحمَن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها ، كيف يطمئنّ إليها لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما كان الكنز إلا علْما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، في قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صُحُف من علم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وعب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن عمر مولى غُفْرة ، قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوبا فيه : بسم الله الرحمَن الرحيم . عَجَبٌ ممن عرف الموت ثم ضحك ، عَجَبٌ ممن أيقن بالقدر ثم نَصِب ، عَجَبٌ ممن أيقن بالموت ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .
وقال آخرون : بل كان مالاً مكنوزا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كنز مال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو حُصَين ، عن عكرمة ، مثله ، قال شعبة : ولم نسمعه منه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : مال لهما ، قال قتادة : أُحِلّ الكنز لمن كان قبلنا ، وحُرّم علينا ، فإن الله يُحلّ من أمره ما يشاء ، ويحرّم ، وهي السنن والفرائض ، ويحلّ لأمة ، ويحرّم على أخرى ، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب : القول الذي قاله عِكْرمة ، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من من مال ، وأن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز ، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك ، لعلل قد بيّناها في غير موضع .
وقوله : وكان أبُوهُما صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما يقول : فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما ، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته ، رحمة من ربك بهما ، يقول : فعلت فعل هذا بالجدار ، رحمة من ربك لليتيمين . وكان ابن عباس يقول في ذلك ما :
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ، في قوله وَكانَ أبُوهُما صالِحا قال : حُفِظا بصلاح أبيهما ، وما ذكر منهما صلاح .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
وقوله : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي يقول : وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ، ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي : كان عبدا مأمورا ، فمضى لأمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي .
وقوله : ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا يقول : هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني ، تأويل . يقول : ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها ، وإنكارك لها صبرا .
وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه ، تأديب منه له ، وتقدمٌ إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه ، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه ، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها ، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى ، إذ لم يكن عالما بعواقبها ، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة ، ينبىء عن صحة ذلك قوله : وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُوءَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه ، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين ، بغير نظر منه لهم ، وإن ذلك فيما يَحْسِب من لا علم له بما الله مدبر فيهم ، نظرا منه لهم ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الاَخرة الخَزْيَ الدائم .
وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ »{[7877]} هذا الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز » : فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً ، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة{[7878]} كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة{[7879]} ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته »{[7880]} ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { وإذا مرضت فهو يشفيني }{[7881]} [ الشعراء : 80 ] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله }{[7882]} [ الصف : 5 ] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[7883]} [ التوبة : 118 ] ، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه{[7884]} هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى . لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد » كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[7885]} ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع » ، وقرأ الجمهور «تسطع » قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع » المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [ الكهف : 58 ] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله .
أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .
وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .
وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .
وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .
و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .
ابن رشد: سُئِلَ مالكٌ عن قول الله عز وجل: {فأَرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهما} ما الأَشُدُّ؟ قال: الحُلُمُ، وقال مالكٌ: قال الله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فالأَشُدُّ هاهنا: الحُلُمُ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى: وأما الحائط الذي أقمته، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنزلهما.
اختلف أهل التأويل في ذلك الكنز؛ فقال بعضهم: كان صُحُفا فيها علِم مدفونة... وقال آخرون: بل كان مالاً مكنوزا... عن عكرمة... قال: كنز مال. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب: القول الذي قاله عِكْرمة، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال، وأن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك...
وقوله:"وكان أبُوهُما صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما" يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته، "رحمة من ربك "بهما، يقول: فعلت هذا بالجدار، رحمة من ربك لليتيمين... قال ابن عباس، في قوله "وَكانَ أبُوهُما صالِحا" قال: حُفِظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح...
وقوله: "وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي" يقول: وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به... وقوله: "ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا" يقول: هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني "تأويل"؛ يقول: ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها وإنكارك لها صبرا.
وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه، تأديب منه له، وتقدمٌ إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى، إذ لم يكن عالما بعواقبها، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة، ينبئ عن صحة ذلك قوله: "وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا". ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين، بغير نظر منه لهم، وإن ذلك فيما يَحْسِب من لا علم له بما الله مدبر فيهم، نظرا منه لهم، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي الدائم.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الآية؛ فيه دلالة على أن الله يحفظ الأولاد لصلاح الآباء... ونحوه قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} [الفتح: 25]، فأخبر بدفع العذاب عن الكفار لكون المؤمنين فيهم، ونحوه قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَما تسويةُ الجدارِ فلاستبقاءِ كنزِ الغلامَيْن وترْكِ طلبِ الرِّفْقِ من الخَلْق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحاً} اِعتِدادٌ بصَلاح أبيهما وحِفْظٌ لِحَقِّه فيهما...
{وَمَا فَعَلْتُهُ}... {عَنْ أَمْرِي} عن اجتهادي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة {فأردتُ أنْ أعيبَها} [الكهف: 79] وفي الثانية {فأردْنا أن يُبَدِّلَهما} وفي الثالثة {فأراد ربُّكَ أنْ يَبْلُغا} وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظةُ عيبٍ، فتأدَّبَ بأنْ لم يُسنِد الإرادةَ فيها إلا إلى نفسه، كما تأدَّب إبراهيم عليه السلام في قوله {وإذا مَرِضْتُ فهو ييَشْفِين} [الشعراء: 80]، فأَسنَد الفعلَ قبلُ وبعدُ إلى الله تعالى، وأَسنَد المرضَ إلى نفسه، إذ هو معنَى نقْصٍ ومصيبةٍ، وهذا المَنزِع يطَّرد في فصاحة القرآن كثيراً... وإنما قال الخضر في الثانية {فأرَدْنا} لأنه أملٌ قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلَّم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنَّى البديل لهما،... وإنما أَسنَد الإرادة في الثالثة... إلى الله تعالى، لأنها في أمرٍ مستأنَفٍ في زمن طويل غيبٍ من الغيوب، فحَسُنَ إفادةُ هذا الموضع بذِكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أَعلَمه اللهُ أنه يريده، فهذا توجيهُ فصاحةِ هذه العبارة بحسب فهْمنا المُقَصِّر، والله أعلم... والأَشُدُّ» كَمالُ الخَلْقِ والعقلِ...
... {رحمةً مِن ربِّكَ} يعني إنما فعلتُ هذه الفِعالَ لِغرضِ أن تَظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسْرِها تَرجِع إلى حرفٍ واحدٍ وهو تحمُّل الضَّررِ الأدنى لِدَفْع الضرر الأعلى... {وما فَعلتُه عن أمْري}... وإنما فَعَلْتُه بأمْر الله ووحْيِه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقةِ دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنّصِّ القاطعِ...
بَقِيَ في الآية سؤالٌ، وهو أنه قال:...
{فأَرَدْنا أَنْ يُبَدِّلَهما ربُّهما خَيْراً منه زكاةً} وقال: {فأرادَ ربُّكَ أنْ يَبْلُغا أَشُدَّهما} كيف اختلفتِ الإضافةُ في هذه الإراداتِ...
وهي... في قصةٍ واحدةٍ وفِعْلٍ واحدٍ؟ والجواب: أنه... لَمّا ذَكَر القتلَ عَبَّر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العُظَماء في علوم الحِكْمة فلم يُقْدِمْ على هذا القتل إلا لِحِكمةٍ عاليةٍ،...
ولَمّا ذَكر رعايةَ مصالحِ اليتيميْن لأجل صلاحِ أبيهما أضافه إلى الله تعالى، لأن المُتكفِّل بمصالح الأبناء لرعاية حَقِّ الآباءِ ليس إلا اللهَ سبحانه وتعالى...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى:"الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصيرا" [الحج: 75] وقال تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالته "[الأنعام: 241] وقال تعالى: "كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" [البقرة: 213] [الآية] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي...) الحديث...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا كانت القريةُ لا تُنافي التسميةَ بالمدينة، وكان التعبيرُ بالقرية أولاً ألْيَقَ، لأنها مشتقّةٌ منْ معنى الجَمْع، فكان أَلْيَقَ بالذّمّ في ترك الضيافة لإشعاره ببُخلهم حالةَ الاجتماع وبمحبّتهم للجمع والإمساكِ، وكانت المدينةُ بمعنى الإقامة، فكان التعبيرُ بها أَلْيَقَ للإشارة به إلى أن الناس يُقيمون فيها، فيَنْهَدم الجدارُ وهم مقيمون فيأخذون الكنز، قال: {في المدينةِ} فلذلك أَقَمْتُه احتساباً.. {فأراد ربُّكَ} أي المُحْسِنُ إليك بهذه التربية، إشارةً إلى ما فَعل بك مِن مِثلِها قبل النبوة...
{أَشُدَّهُمَا} أي رُشْدَهما... {ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهما} لِيَنْتَفِعا به ويَنْفَعا الصالحين {رحمةً} بهما {مِنْ رَبِّكَ} أي الذي أَحْسَنَ تربيتَكَ وأنتَ في حُكْم اليتيمِ...
{تأويلُ ما لم تَسْطِعَ} يا موسى {عليه صَبْراً} وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك -بعد كشْف الغطاء- في حيز ما يُحمَل فكان مُنكِره غيرَ صابرٍ أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَأَمَّا الْجِدارُ} المَعْهودُ {فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ في المدينةِ}... ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتدادِ ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ...
{فَأَرَادَ رَبُّكَ} أي مالِكُكَ ومُدَبِّرُ أمورِك، ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دونَ ضميرِهما تنبيهٌ له عليه الصلاة والسلام على تحتُّم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وَقَع بحسَبها من الأمور المذكورة...
{وَيَسْتَخْرِجَا} بالكُلِّيَّةِ {كَنزَهُمَا} مِن تحتِ الجدارِ ولولا أني أقمتُه لانقَضَّ وخَرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارِهما على حِفظ المال وتنميتِه وضاعَ... {ذَلِكَ} إشارة إلى العَواقب المنظومةِ في سِلْك البَيان، وما فيه معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة...
{تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع}... {عَّلَيْهِ صَبْراً} من الأمور التي رابَتْه... فيكون إنجازاً للتَّنْبئة الموعودةِ، أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه، وعلى كل حالٍ فهو فَذْلَكَةٌ لِما تقدَّم، وفي جعْل الصلة عينَ ما مَرَّ تكريرٌ للنَّكِير وتشديدٌ للعِتاب...
{وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} من تحت الجدار، ولو انقَضَّ قبل ذلك لَظَهَر الكنزُ، وأخَذه غيرُ أهلِه قَهْراً أو سرقةً، ولو أخَذه اليتيمان قبل أشُدِّهِما لَضَيَّعاه، وكان وَصِيُّهما عالِماً به، لكنه غاب هذا على موسى إذ قال إقامةُ هذا الجدار بدون أن تُطْلَب إِليها فضولٌ وتبرُّعٌ على مَن حَرَمُونا...
{تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} تَسْتَطِعْ حُذفت التاءُ تخفيفاً بحذف أحد المتقاربين التاء والطاء في آخر الكلام، كما أن العياء قد لحِقهما بالعتاب، وكما أن موسى يفارق الخضر وبقيَ الخضر مُنفرِداً، كما بقيت الطاء، ولم يكن ذلك في الأول لعدم موجِب التخفيف وهو العياء، وإنما حصل التكرير بالأخير، فخُفِّف ولا يخفف لفظ "ذلك "عن هذا فيقال: ذاك، خُفِّف استطاع بحذف التاء... كما يُصَغَّرُ الاسمُ أو يُرَخَّمُ للتّرحُّم، ولِعِظَمها أشار بالعبد، وهنا أَنجز الموعودَ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وما فَعَلْتُه عن أمْرِي}... إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس، بل هي من أعمال الله، وإنما كنت واسطةً فيها، فهي نماذجُ لفِعل ربِّكم في هذه الحياة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري).. فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى. وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول. فالقصة تمثل الحكمة الكبرى. وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار. ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار. وهكذا ترتبط -في سياق السورة- قصة موسى والعبد الصالح، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله، الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر، الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها. ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال {وما فعلته عن أمري} علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربّي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ...
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة؛ فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه. وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية»، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة، وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في « عقائده»، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي، لقوله {وما فعلته عن أمري}، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.
فكونوا على حذر ممن يقول: أخبرني الخَضر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... يلفت نظرنا في هذه القصة عدة نقاط:
الأسلوب الوديع الذي يعبّر عن روح التواضع للعلم والعلماء، من دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلم، فنحن نجد الأدب الرسالي في هذه الكلمات الهادئة المتعطشة للعلم التي خاطب بها موسى (عليه السلام) هذا العبد الصالح: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً».
الأسلوب الواقعي الذي يعبِّر عن الروح العملية التي يعيشها العالم تجاه المتعلمين، بعيداً عن أيّة مجاملة تفرضها الأوضاع الاجتماعية، أو أيّ أسلوب من أساليب اللف والدوران التي تحاول خداع الآخرين، لتجعل منهم أرقاماً تضاف إلى أرقام الأتباع الموجودين الذين يشاركون في تضخيم شخصية الأستاذ، من دون ملاحظة لاستفادتهم منه أو قابليتهم للتعلُّم والانتفاع بعلمه. فقد لاحظ هذا العبد الصالح أنه يختلف عن الآخرين في طبيعة معرفته بالواقع، فهم يلتقون بالجانب الظاهر منه، بينما يعتبر نفسه مطلعاً على الجوانب التي تختفي وراء الصور الظاهرية المألوفة للأشياء، ما يجعلهم يرفضون أو لا يتحملون طريقته في العمل وأسلوبه في معالجة هذا الواقع، وسوف لن يتقبلوها في نهاية المطاف. وبذلك تفقد الصحبة فائدتها، وتتحول إلى مزيد من المجادلات والمخاصمات التي لن تكون في مصلحة أحدٍ، ولا في مصلحة الحقيقة على أي حال. وعلى ضوء هذا، أوضح له طبيعة سلوكه الذي يتعارض مع المألوف، وأعلن له مقدّماً أنه أي موسى (عليه السلام) لن يستطيع معه صبراً، لأن الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يُحط بمعرفته، فلم يكن من موسى (عليه السلام) إلا أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة... وكانت تعليمات العبد الصالح أن لا يسأله موسى (عليه السلام) عن كل شيء يشاهده ويثير استغرابه، أو يرسم علامات الاستفهام في ذهنه، مهما كان الشيء مثيراً أو غريباً... وينتظر حتى يبدأه هو بالحديث عنه وعن كل شيء شاهده ورآه. وبهذا كانت العلاقة المتبادلة بينهما علاقة صحبة ترتكز على السعي نحو المعرفة في إطار من الانضباط والواقعية.
إن القضايا التي قام بها هذا العبد الصالح، كانت تتحدى صبر موسى (عليه السلام) بما أثارته من خروج عن الخط الشرعي، كما في قضية قتل الغلام، وخرق السفينة، لما في الأول من اعتداء على الأموال وتعريض الآخرين للخطر من دون حق، ولما في الثاني من اعتداء على الحياة بدون ذنب، وكما في حادثة تثبيت الجدار وما أظهرته من إهمال لمبدأ استغلال الطاقة التي يملكها الإنسان، من أجل حماية نفسه من الجوع، لا سيما مع الأشخاص الذين لا يعيشون القيم في حياتهم العامة... ولهذا كانت احتجاجات موسى (عليه السلام) تتلاحق وتشتد في كل حالة من هذه الحالات، حتى كانت الحالة الأخيرة التي سبقها التعهُّد الأخير بالصبر من قِبَل موسى (عليه السلام)، وإعطاء صاحبه الحرية في أن يفارقه، إذا استمر في إثارة السؤال وفي نفاد الصبر. وهكذا كان، ولم يستطع موسى (عليه السلام) الصبر في الحالة الأخيرة، وبدأ العبد الصالح، بعد أن نفّذ تهديده بالفراق، يشرح لموسى (عليه السلام) كل شيء، ويوضح له طبيعة الأعمال التي أثارت استنكاره، وكيف كانت مرتبطة بأمر الله، لا برأيه الشخصي. وليس من شأن هذا البحث، أن ندخل في الحديث حول تقييم هذه الأعمال، من حيث انسجامها مع الخطوط المألوفة للشريعة، أو اختلافها عنها، وخضوعها لحالة استثنائية اقتضتها طبيعة تلك الحالات الخاصة... فإن لذلك بحثاً آخر، لا مجال له الآن. بل كل ما نريده هو الاستفادة من الجو الذي عشناه في هذا الحوار، بتقرير فكرتين أساسيتين، تدخلان في نطاق عمل الداعية إلى الله والعامل في سبيل رسالته..
أ -إن على الداعية أن يعيش الانضباط والصبر والصمت في الحياة العملية التي تتحرك في اتجاه ممارسته المسؤولية، إذا كانت الجهة التي يتبعها أو يتعاون معها في مستوى الثقة الفكرية والدينية والعملية التي تبرِّر له أمر الاعتماد عليها، والسير معها، فلا يسارع إلى الاعتراض في ما يوجّه إليه من أوامر، وما يشاهده من أعمال تخالف ما هو مألوف لديه، لأن ذلك قد يوجب الارتباك في العمل، والخلل في انضباط الصفوف... بل يؤخِّر ذلك إلى الظرف المناسب والمكان المناسب، حيث يكون، من الممكن، من وجهةٍ عملية، القيام بما يريده من إثارة السؤال والجواب.
ب- إن على المؤمنين أن يتقبلوا بالصبر والتسليم ما يُلقى إليهم من أحكام الله، مما لا يتفق مع الأفكار التي يألفونها، لأن الله سبحانه أعلم بجهات الصلاح والفساد، فإذا حدثت لديهم شبهةٌ في أي أمر من ذلك، فليتهموا أفكارهم في البداية وليحاولوا البحث بعد ذلك عن طبيعة الحكم وحيثيته، ليصلوا إليه، في نهاية المطاف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
1 ـ هل كانت مهمّة الخضر في إطار النظام التشريعي أم التكويني!؟
إِنَّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات. والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إِتلاف جزء مِن أموال شخص بدون إِجازته بذريعة أنَّ هُناك غاصباً يريد أن يُصادرها؟ وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟ ثمّ هل هُناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟
لقد رأينا مِن سياق القصّة القرآنية أنَّ موسى اعترض على الرجل العالم، ولكنَّهُ بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأُمور عاد واقتنع. أمّا نحن فأمامنا طريقان للإِجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق الأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة مِن المفسّرين بسلوك هذا الطريق. فالحادثة الأُولى اعتبروها مُنطبقة مع قانون الأهم والمهم؛ وقالوا بأنَّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتماً مِن الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق؛ وبعبارة أُخرى، فإِنّ الخضر قام هُنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنَّهُ كان يُمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إِذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنَّ الخضر قد حصل مِن وجهة الأحكام والقواعد الشرعية على إِذن الفحوى). وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرَّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنَّ الفتى كانَ بالغاً وأنَّهُ كان مرتداً أو مفسداً، وبسبب أعماله الفعلية فإِنَّهُ مِن الجائز أن يُقتل. وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإِنَّهُ بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إِفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإِنَّ قتله طبقاً للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزاً. أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإِيثار مِن أجل الآخرين، ومِن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجراً على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام بهِ الخضر، وقد لا تصل هذه الافعال إلى حدّ الوجوب، إِلاَّ أنّها تعتبر ـ حتماً ـ مِن السلوك الحسن. بل قد يُقال مِن الوجهة الفقهية أنّ الإِيثار والتضحية في بعض الموارد مِن الأُمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإِذا كانت التوضيحات الآنفة مُقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إِلاَّ أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم بهِ مِن أعمال في المستقبل، وليسَ أعماله الفعلية. أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضاً لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومِن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءاً مِن أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لإنقاذها مِن خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنَّهُ سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل... تُرى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟! وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقاً آخر:
الطريق الثّالث: إِنَّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني،والنظام التشريعي»، وبالرغم مِن أنَّ هذين النظامين مُتناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنهما قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات. على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومِن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر مِن غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات. والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟ ونرى أنَّ الله سبحانهُ وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى بهِ يعقوب (عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إلى المساكين، أو ما ابتلى بهِ يونس (عليه السلام) بسبب تركه الأُولى مِن بعض الأُمور ولو لفترة قصيرة... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟ ونرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة مِن الإِنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال، أو يُصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربِّه على نعمة السلامة... والسؤال هنا: هل يستطيع أحد مِن الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب النعمة مِن الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟ إِنَّ أمثال هذه الأُمور كثيرٌ للغاية، وهي تُظهر ـ بشكل عام ـ أنَّ عالَم الوجود، وخصوصاً خلق الإِنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضعَ الله تعالى مجموعة مِن القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإِنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيُصاب بردود فعل مُختلفة. ولكنّا مِن وُجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنِّف الأُمور في إِطار هذه القوانين التكوينية. على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إِصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقاباً لهُ على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتماً لأنَّهُ يُلائم النظام الأحسن). والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنَّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة مِن الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني. ومِن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنَّ أخطاراً كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنَّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك. وأيضاً لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنَّ خروجي مِن البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني مِنها...