قوله تعالى : { ولئن أصابكم فضل من الله } ، فتح وغنيمة .
قوله تعالى : { ليقولن } هذا المنافق ، وفيه تقديم وتأخير ، وقوله : ( كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) متصل بقوله { فإن أصابتكم مصيبة } تقديره : فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً .
قوله تعالى : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } أي : معرفة . قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب { تكن } بالتاء ، والباقون بالياء ، أي : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن .
قوله تعالى : { يا ليتني كنت معهم } . في تلك الغزاة .
قوله تعالى : { فأفوز فوزاً عظيماً } ، أي : آخذ نصيباً وافراً من الغنيمة ، وقوله { فأفوز } نصب على جواب التمني بالفاء ، كما تقول : وددت أن أقوم فيتبعني الناس .
فأما إذا كانت الأخرى . . فانتصر المجاهدون ؛ الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله . . ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة . . ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة ! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة ! ( ولئن أصابكم فضل من الله ، ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا ) .
إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب ، هي التي يقولون عنها : ( فوزا عظيمًا ) والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة ؛ بل مطلوب منه أن يرجوه من الله . والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية . . ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور ، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسما مستنكرا منفرا . .
إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية . ولكنه إذا ندب للجهاد خرج - غير متثاقل - خرج يسأل الله إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة . . وكلاهما فضل من الله ؛ وكلهما فوز عظيم . فيقسم له الله الشهادة ، فإذا هو راض بما قسم الله ؛ أو فرح بمقام الشهادة عند الله . ويقسم له الله الغنيمة والإياب ، فيشكر الله على فضله ، ويفرح بنصر الله . لا لمجرد النجاة !
وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه ؛ وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق( منهم )وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين ، ليأخذوا منهم حذرهم ؛ كما يأخذون حذرهم من أعدائهم !
ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان ، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان ، في كل زمان ومكان ، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن !
ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبدا . وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء . فلا ييئس من نفسه . ولكن يأخذ حذره ويمضي . ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد ، أن يكمل النقص ، ويعالج الضعف ، وينسق الخطى والمشاعر والحركات !
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنّ كَأَن لّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يَلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } . .
يقول جلّ ثناؤه : { وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ } : ولئن أظفركم الله بعدوّكم ، فأصبتم منهم غنيمة¹ { لَيَقُولَنّ } هذا المبطىء المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله المنافق { كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَودّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ } بما أصيب معهم من الغنيمة { فَوْزا عَظِيما } . وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة ، وإن تخلفوا عنها فللشكّ الذي في قوبلهم ، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا . وكان قتادة وابن جريج يقولان : إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين : يا ليتني كنت معهم ، حسدا منهم لهم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنّ كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فأفُوزَ فَوْزا عَظِيما } قال : قول حاسد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ } قال : ظهور المسلمين على عدوّهم ، فأصابوا الغنيمة { لَيَقُولَنّ } { يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ فَوْزا عَظِيما } قال : قول الحاسد .
وقوله تعالى : { ولئن أصابكم فضل من الله } الآية ، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله ، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة ، وقال : { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً } متمنياً شيئاً قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده ، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذراً واضحاً ، وأمراً لا قدرة له معه ، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير ، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة ، ويعاهد على التزام كلف الإسلام ، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله ، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين ، فعلى هذا يجيء قوله تعالى : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } التفاتة بليغة ، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم .
وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج ، أنهما كانا يتأولان قول المنافق { يا ليتني كنت معهم } على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة ، وقرأ الحسن { ليقولُن } بضم اللام على معنى «من » وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة ، ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين إنما كان يقصد الغنيمة ، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين و { كأن } مضمنة معنى التشبيه ، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر وإنما تجيء بعدها الجمل{[4148]} ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص «تكن » بتاء ، وقرأ غيرهما «يكن » بياء ، وذلك حسن للفصل الواقع بين الفعل والفاعل ، وقوله : { فأفوز } نصب بالفاء في جواب التمني ، وقرأ الحسن ويزيد النحوي { فأفوز } بالرفع على القطع والاستئناف ، التقدير : فأنا أفوز : قال روح : لم يجعل ل «ليت » جواباً ، وقال الزجّاج : إن قوله : { كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } مؤخر . وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة الكلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن أصابكم فضل}: رزق، {من الله} عز وجل، يعني الغنيمة، {ليقولن} ندامة في التخلف، {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} في الدين والولاية، {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}، فألحق من الغنيمة نصيبا وافرا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ}: ولئن أظفركم الله بعدوّكم، فأصبتم منهم غنيمة¹ {لَيَقُولَنّ} هذا المبطئ المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله، المنافق {كأنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَودّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأفُوزَ} بما أصيب معهم من الغنيمة {فَوْزا عَظِيما}. وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أن شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها لطلب الغنيمة، وإن تخلفوا عنها فللشكّ الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابا ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابا. وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين: يا ليتني كنت معهم، حسدا منهم لهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما ذمهم الله بهذا التمني لأحد أمرين:
أحدهما: لأنهم قالوه على وجه إيثار الغنيمة لا على حال المثوبة من جهة الله لشكهم في الجزاء من الله.
الثاني: قال قتادة وابن جريج أنهم قالوا: ذلك على جهة الحسد للمؤمنين...
أحدهما: قال الجبائي: المعنى ليقولن لهؤلاء الذين أقعدهم عن الجهاد، كأن لم يكن بينكم وبينه أي وبين محمد (صلى الله عليه وآله) مودة، فيخرجكم لتأخذوا من الغنيمة، ليبغضوا إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
الثاني: أنه يقول قول الممنوع بالعداوة. وإنما أتي من جهله بتلك الحال. وهو الأظهر.
والمعنى كأنه لم يعاقدكم على الإيمان ولم يظهر لكم مودة على حال يخاطبون بذلك من اقعدوه عن الخروج، ثم يقول من قبل نفسه: ياليتني كنت معهم. وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى ليس الكون معهم في الخير، والشر، كأهل المودات، وإنما يتمنون ذلك عند الغنيمة كالبعداء يذمهم بسوء العهد مع سوء الدين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَضْلٌ مِنَ اللهِ} من فتح أو غنيمة {لَّيَقُولَنَّ} وقرأ الحسن «ليقولون» بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى (من) لأن قوله: (لمن ليبطئن) في معنى الجماعة، وقوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} اعتراض بين الفعل الذي هو (ليقولن) وبين مفعوله وهو {ياليتني} والمعنى: كأن لم تتقدم له معكم موادّة، لأن المنافقين كانوا يوادّون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن، والظاهر أنه تهكم لأنهم كانوا أعدى عدوّ للمؤمنين وأشدهم حسداً لهم، فكيف يوصفون بالمودّة إلا على وجه العكس تهكماً بحالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ولئن أصابكم فضل من الله} الآية، المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله، ندم المنافق إن لم يحضر ويصب الغنيمة، وقال: {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً} متمنياً شيئاً قد كان عاهد أن يفعله ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع له من الحضور عذراً واضحاً، وأمراً لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد ذلك على فوات الخير، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا يجيء قوله تعالى: {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} التفاتة بليغة، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم...
وحكى الطبري عن قتادة وابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق {يا ليتني كنت معهم} على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة، وقرأ الحسن {ليقولُن} بضم اللام على معنى «من» وضم اللام لتدل على الواو المحذوفة، ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن خارج المنافقين إنما كان يقصد الغنيمة، ومتخلفهم إنما كان يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان تحسره إنما هو على فوات الأغراض الدنيوية أكد قوله: {ليقولن} أي في غيبتكم، واعترض بين القول ومقوله تأكيداً لذمهم بقوله: {كأن} أي كأنه {لم} أي مشبهاً حاله حال من لم {يكن بينكم وبينه مودة} أي بسبب قوله: {يا ليتني كنت معهم فأفوز} أي بمشاركتهم في ذلك {فوزاً عظيماً} وذلك لأنه لو كان ذا مودة لقال حال المصيبة: يا ليتها لم تصبهم! ولو كنت معهم لدافعت عنهم! وحال الظفر: لقد سرني عزهم، ولكنه لم يجعل محط همه في كلتا الحالتين غير المطلوب الدنيوي، ولعله خص الحالة الثانية بالتشبيه لأن ما نسب إليه فيها لا يقتصر عليه محب، وأما الحالة الأولى فربما اقتصر المحب فيها على ذلك قصداً للبقاء لأخذ الثأر ونكال الكفار، وذكر المودة لأن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولئن أصابكم فضل من الله} كالظفر والغنيمة {ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} أي ليقولن قول من ليس منكم، ولا جمعته مودة بكم، يا ليتني كنت معهم فأفوز بذلك الفضل فوزهم، فهو قد نسي أنه كان أخا لكم، وكان من شأنه أن يخرج معكم، وما منعه أن يخرج إلا ضعف إيمانه، ثم إن تمنيه بعد الظفر أو الغنيمة لو كان معكم دليل على ضعف عقله وكونه ممن يشرون الحياة الدنيا بالآخرة وهم الذين تشير إليهم الآية التالية.
هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في الآية، وهو أحد قولين للمفسرين رجحوه بكون الخطاب للذين آمنوا ثم بقوله: {وإن منكم} ولم يقل فيكم ربما في معناه من قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة:38].
والقول الثاني أن هؤلاء المبطئين هم المنافقون لأن هذه الصفات لا تكون إلا لهم فإن المؤمن مهما كان ضعيف الإيمان لا يقول هذا القول عند مصيبة المؤمنين ولا يعد من نعم الله عليه أنه لم يكن معهم شهيدا، بل يستحي من الله عز وجل ويلوم نفسه أن أطاعت داعي الجبن ويستغفر ربه من ذلك، ولا يكون شديد الشره والحرص على المشاركة في الفوز والغنيمة. فالآية في المنافقين سواء كان التبطيء فيها لازما بمعنى الإبطاء أو متعديا بمعنى حمل الناس عليه، وقد أسند الله تعالى كلا المعنيين إلى المنافقين في عدة آيات، والظاهر هنا معنى الإبطاء عن الخروج إذ لو بطأ غيره وخرج هو لكان قد شهد الحرب فلا معنى لسروره إذا أصيبوا، ولا لتمنيه لو كان معهم إذا ظفروا، ويصح أن يقال أن من أبطأ يبطئ غيره بإبطائه إذ يكون قدوة رديئة لمثله من منافق أو جبان، ويبطئه أيضا بقوله حتى لا ينفرد بهذا الذنب، فإن الفضيحة والمؤاخذة على المنفرد أشد، وإذا كثر المذنبون يتعسر أو يتعذر عقابهم، ولأجل هذا تتألف العصابات في هذا الزمان للأعمال التي يعاقب عليها الحكام، ولفظ التبطيء يدل على كونه يبطئ غيره بسبب إبطائه، فهو أبلغ من غيره.
هؤلاء الذين اختاروا أن المبطئ هو المنافق قد أجابوا عن جعله من المؤمنين بقوله تعالى لهم: {منكم} بأنه منهم بالزعم والدعوى أو في الظاهر دون الباطن لأنه كان يعامل معاملة المؤمنين وتجري عليه أحكامهم، وزاد بعضهم وجها ثالثا وهو أنه منهم في الجنس والنسب والاختلاط، وليس بشيء.
يجزم هؤلاء بأن الإيمان ينافي ما ذكر من التبطيء عن القتال من معنييه مع ذينك القولين عند المصيبة، وعند الظفر والغنيمة، فإن من يبطئ ويقول ذلك لا يكون له هم ولا عناية بأمر دينه، وإنما أكبر همه شهواته وربحه من الدين، حتى أنه يعد مصيبة المسلمين نعمة إذا لم يصبه سهم منها. فليحاسب المسلمون في هذا الزمان أنفسهم، ليزنوا بهذه الآيات إيمانهم.
ثم إن قوله تعالى: {كأن لم تكن بينكم وبينهم مودة} جملة معترضة بين القول ومقوله، وذكر المودة هنا نكرة منفية في سياق التشبيه في أوج البلاغة الأعلى فهي كلمة لا تدرك شأوها كلمة أخرى ولا تنتهي إلى غورها في التأثير. ذلك بأن قائل ذلك القول الذي لا يقوله من كان بينه وبين المؤمنين مودة ما معدود من المؤمنين الذين هم بنص كتاب الله إخوة بعضهم أولياء بعض، وبنص حديث رسول الله تتكافأ دماؤهم، ويجير عليهم أدناهم، وهم كأعضاء الجسم الواحد وكالبنيان يشد بعضه بعضا، فإذا كان هذا مكان كل مؤمن من سائر المؤمنين، فكيف يصدر عن أحد منهم مثل ذلك القول وذلك التمني الذي يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله وفضله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه، وهو لا يعقل أن يصدر عمن كان بينه وبينهم مودة ما ولو قليلة في زمن ما ولو بعيدا. أعني أن قليلا من المودة كان في وقت ما ينبغي أن يمنع عن مثل ذلك التمني. وفي هذا من التقريع والتوبيخ بألطف القول وأرق العبارة ما لا يقدر على مثله بلغاء البشر، ومن فوائده أن يؤثر في نفس من يذوقه التأثير الذي لا يدنوا من مثله النبز بالألقاب والطعن بهجر القول، التأثير الذي يحمل صاحبه على التأمل والتفكر في حقيقة حاله، ومعاتبة نفسه، فإن كان فيه بقية من الرجاء تاب إلى ربه، ورجع كله إلى حقيقة دينه، هذه هي فائدة تلك الجملة المعترضة وياالله ما أعجب التشبيه فيها ونفي الكون وتنكير المودة، إنك إن تعط ذلك حقه من التأمل، ويؤتك ذوق الكلام قسطه من البلاغة، فقد أوتيت آية من آيات الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوقين، وكشف لك عن سر من أسرار عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا الكتاب المبين.
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم {كأن لم تكن} بالتاء، والباقون "يكن "بالياء. ومثل ذلك معروف في التنزيل وكلام العرب فتأنيث الفعل هو الأصل لأن المسند إليه مؤنث، ولكن التأنيث فيه لفظي لا حقيقي ولهذا جاز تذكير الفعل وحسن، ويكثر مثله ولا سيما في حال الفصل أي إذا فصل بين الفعل وفاعله أو اسمه فاصل. ومن الأول قوله: {قد جاءتكم موعظة من ربكم} ومن الثاني {فمن جاءه موعظة من ربه} [البقرة:275] ذكر الفعل وقد فصل بينه وبين فاعله بالضمير الذي هو المفعول.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم قال: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي: نصر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما إذا كانت الأخرى.. فانتصر المجاهدون؛ الذين خرجوا مستعدين لقبول كل ما يأتيهم به الله.. ونالهم فضل من الله بالنصر والغنيمة.. ندم المتخلفون أن لم يكونوا شركاء في معركة رابحة! رابحة بحسب مفهومهم القريب الصغير للربح والخسارة! (ولئن أصابكم فضل من الله، ليقولن -كأن لم تكن بينكم وبينه مودة- يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيمًا). إنها أمنية الفوز الصغير بالغنيمة والإياب، هي التي يقولون عنها: (فوزا عظيمًا) والمؤمن لا يكره الفوز بالإياب والغنيمة؛ بل مطلوب منه أن يرجوه من الله. والمؤمن لا يتمنى وقوع البلاء بل مطلوب منه أن يسأل الله العافية.. ولكن التصور الكلي للمؤمن غير هذا التصور، الذي يرسمه التعبير القرآني لهذه الفئة رسما مستنكرا منفرا...
لهذه الفئة رسما مستنكرا منفرا.. إن المؤمن لا يتمنى البلاء بل يسأل الله العافية. ولكنه إذا ندب للجهاد خرج -غير متثاقل- خرج يسأل الله إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ...
... وكلاهما فضل من الله؛ وكلهما فوز عظيم. فيقسم له الله الشهادة، فإذا هو راض بما قسم الله؛ أو فرح بمقام الشهادة عند الله. ويقسم له الله الغنيمة والإياب، فيشكر الله على فضله، ويفرح بنصر الله. لا لمجرد النجاة! وهذا هو الأفق الذي أراد الله أن يرفع المسلمين إليه؛ وهو يرسم لهم هذه الصورة المنفرة لذلك الفريق (منهم) وهو يكشف لهم عن المندسين في الصف من المعوقين، ليأخذوا منهم حذرهم؛ كما يأخذون حذرهم من أعدائهم! ومن وراء التحذير والاستنهاض للجماعة المسلمة في ذلك الزمان، يرتسم نموذج إنساني متكرر في بني الإنسان، في كل زمان ومكان، في هذه الكلمات المعدودة من كلمات القرآن! ثم تبقى هذه الحقيقة تتملاها الجماعة المسلمة أبدا. وهي أن الصف قد يوجد فيه أمثال هؤلاء. فلا ييئس من نفسه. ولكن يأخذ حذره ويمضي. ويحاول بالتربية والتوجيه والجهد، أن يكمل النقص، ويعالج الضعف، وينسق الخطى والمشاعر والحركات!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أكّد قوله: {ولئن أصابكم فضل من الله ليَقولنّ}، باللام الموطّئة للقسم وبلام جواب القسم وبنون التوكيد، تنبيهاً على غريب حالته حتّى ينزَّل سامعها منزلة المنكر لوقوع ذلك منه. والمراد من الفضل الفتح والغنيمة. وهذا المبطئ يتمنّى أن لو كان مع الجيش ليفوز فوزاً عظيماً، وهو الفوز بالغنيمة والفوْز بأجر الجهاد، حيث وقعت السلامة والفوز برضا الرسول، ولذلك أتبع {أفوز} بالمصدر والوصف بعظيم. ووجه غريب حاله أنّه أصبح متلهّفاً على ما فاته بنفسه، وأنّه يودّ أن تجري المقادير على وفق مراده، فإذا قعَد عن الخروج لا يصيبُ المسلمين فضل من الله. وجملة {كَأنْ لم يكن بينكم وبينه مودة} معترضة بين فعل القول ومَقُولِه. والمودّة الصحبة والمحبّة؛ وإمّا أن يكون إطلاق المودّة على سبيل الاستعارة الصورية إن كان المراد به المنافق، وإمّا أن تكون حقيقة إن أريد ضعفة المؤمنين...
وشبّه حالهم في حين هذا القول بحال من لم تسبق بينه وبين المخاطبين مودّة حقيقية أو صوريّة، فاقتضى التشبيه أنّه كان بينه وبينهم مودّة من قبل هذا القول. ووجه هذا التشبيه أنّه لمّا تمنّى أن لو كان معهم وتحسّر على فوات فوزه لو حضر معهم، كان حاله في تفريطه رفقتهم يشبه حال من لم يكن له اتّصال بهم بحيث لا يشهد ما أزمَعوا عليه من الخروج للجهاد، فهذا التشبيه مسوق مساق زيادة تنديمه وتحسيره، أي أنّه الذي أضاع على نفسه سببَ الانتفاع بما حصل لرفقته من الخير، أي أنّه قد كان له من الخلطة مع الغانمين ما شأنه أن يكون سبباً في خروجه معهم، وانتفاعه بثواب النصر وفخره ونعمة الغنيمة. وقرأ الجمهور {لم يكن} بياء الغيبة وهو طريقة في إسناد الفعل لما لفظه مؤنّث غير حقيقيّ التأنيث، مثل لفظ {مودَّة} هنا، ولا سيما إذا كان فصْل بين الفعل وفاعله. وقرأ ابن كثير، وحفص، ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية علامة المضارع المسند إلى المؤنّث اعتباراً بتأنيث لفظ مودّة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا ثلاثة بحوث لفظية ومعنوية:
أولها: التعبير عن هذه الجماعة، المنافقة أو ضعيفة الإيمان، بالمفرد إتباعا للفظ (مَن) الذي يجوز عود الضمير عليه مفردا. وفي هذا التعبير إشارة إلى معنى الانفراد في الإحساس الذي اختصوا به، ولم يشاركوا أحدا في إحساسهم بالألم أو السرور.
وثانيها: التعبير بقوله: {أصابكم فضل} فإن التعبير بإصابة الخير مع أنهم نالوه، للإشارة إلى أن ذلك إرادة الله تعالى، فإن أصابكم ما يؤلمكم فبإرادته، وإن نلتم من خير فبإرادته وبتفضله.
وثالثها: إن قوله تعالى: {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} جملة معترضة بين القول ومقوله، للإشارة إلى فقدهم الإحساس الاجتماعي فقدا تاما، الذي يجعل مودة أيا كان مقدارها بين المتعاشرين أو المتجاورين أو المتجانسين! لقد فقدوا هذا فقدا تاما، وهذا شأن كل من ينفصل عن جماعته بالإحساس والأنانية الخسيسة. وفي قوله تعالى: {فوزا عظيما} إشارة إلى استعظام الخير الذي ينال المؤمنين، شأن الحسود غير المحب...
إذن فالعلة في قوله: يا ليتني كنت معهم ليست رجوعا عما كان في نفسه أولا، بل هو تحسر أن فاتته الغنيمة، وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا بجملة اعتراضية في الآية تعطينا لقطة إيمانية، فيقول: {ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كان لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}. والجملة الاعتراضية هي قوله: كأن لم تكن بينكم وبينه مودة كأن المودة الإيمانية ليس لها ثمن عنده، فلو كان لها أدنى تقدير لكان عليه ألا يقول في البداية: أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، ولكان مع المقاتلين المسلمين، لكنه يرغب في الفوز والغنيمة فقط، ويبتعد عن المسلمين إذا ما أصابتهم الهزيمة أو استشهد عدد منهم. وبذلك يكشف لنا الحق موقف المتخاذلين ويوضح لنا: إياكم أن تتأثروا بهؤلاء حين تنفرون ثبات أو حين تنفرون جميعا. واعلموا أن فيكم مخذلين وفيكم مبطئين وفيكم متثاقلين، لا يهمهم إلا أن يأخذوا حظا من الغنائم، ولذلك يحمدون الله أن هزمتم ولم يكونوا معكم، ويحبون الغنائم ويتمنونها إن انتصرتم ولم يكونوا معكم، إياكم أن تتأثروا بهذا وقد أعطيتم هذه المناعة حتى لا تفاجؤوا بموقفهم منكم وتكونوا على بصيرة منهم. والمناعات ما هي إلا تربية الجسم، إن كانت مناعة مادية، أو تربية في المعاني، إن حدث مكروه فأنت تملك فكرة عنه لتبني رد فعلك على أساس ذلك. ونحن عندما يهاجمنا مرض نأتي بميكروب المرض نفسه على هيئة خامدة ونطعم به المريض، وبذلك يدرك ويشعر الجسم أن فيه مناعة، فإذا ما جاء الميكروب مهاجما الجسم على هيئة نشيطة، فقوي المقاومة في الجسم تتعارك معه وتحاصر الميكروب، فكأن إعطاء حقن المناعة دربة وتنشيط لقوى المقاومة في الجسم، وقد أودعها الله في دمك كي تؤدي مهمتها، كذلك في المعاني يوضح الحق لكم: سيكون منكم من يفعل كذا وكذا، حتى تعدوا أنفسكم لاستقبال هذه الأشياء إعدادا ولا تفاجئون به؛ لأنكم إن فوجئتم به فقد تنهارون. فإياكم أن تتأثروا بهذا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآية إِشارة إِلى المفهوم المادي للنصر في نظر المنافقين، فالذي يرى الشهادة والقتل في سبيل الله مصيبةً وبلاءً، ويخال النجاة من القتل أو الشهادة في هذه السبيل نعمة إِلهية، لا ينظر إِلى النصر والفوز إِلاّ من خلال منظار كسب الغنائم والمتاع المادي لا غير. هؤلاء المتلونون الموجودون مع الأسف في كل المجتمعات، سرعان ما يغيرون أقنعتهم تجاه ما يواجهه المؤمنون من نصر أو هزيمة، هؤلاء لا يشاركون المؤمنين في معاناتهم ولا يساعدونهم في الملمات، لكنّهم يتوقعون أن يكون لهم في الانتصارات السّهم الأوفى، وأن يحصلوا على ما يحصل عليه المجاهدون المؤمنون من امتيازات.