قوله عز وجل : { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } . والبقرة هي الأنثى من البقر . يقال : هي مأخوذة من البقر وهو الشق ، سميت به لأنها تشق الأرض للحراثة . والقصة فيه أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه ، فلما طال عليه موته قتله ليرثه ، وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم ، ثم أصبح يطلب ثأره ، وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل ، فسألهم موسى فجحدوا ، فاشتبه أمر القتيل على موسى ، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه ، فأمرهم الله بذبح بقرة فقال لهم موسى : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .
قوله تعالى : { قالوا أتتخذنا هزواً } . أي : تستهزئ بنا ، نحن نسألك عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ؟ وإنما قالوا ذلك لبعد بين الأمرين في الظاهر ، ولم يدروا ما الحكمة فيه ، قرأ حمزة هزوا وكفوا بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتثقيل ، وبترك الهمزة حفص .
قوله تعالى : { أعوذ بالله } . أمتنع بالله .
قوله تعالى : { أن أكون من الجاهلين } . أي من المستهزئين بالمؤمنين وقيل : من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال لأن الجواب لا على وفق السؤال جهل ، فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل استوصفوها ، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وكانت تحته حكمة ، وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهم إني استودعتك هذه لابني حتى تكبر ، ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عواناً ، وكانت تهرب من كل من رآها ، فلما كبر الابن وكان باراً بوالدته ، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث ، يصلي ثلثاً ، وينام ثلثاً ، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً ، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره ، فيأتي به إلى السوق ، فيبيعه بما شاء الله ، ثم يتصدق بثلثه ، ويأكل بثلثه ، ويعطي والدته ثلثه ، فقالت له أمه يوماً : إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا ، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك ، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أنها شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها ، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب . فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه ، فقبض على عنقها يقودها ، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى فقالت : أيها الفتى البار بوالدتك اركبني ، فإن ذلك أهون عليك ، فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها ، فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبداً ، انطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك ، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له : إنك فقير لا مال لك فيشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل ، فانطلق فبع هذه البقرة ، قال : بكم أبيعها ؟ قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي ، وكان ثمن البقرة يومئذ ثلاثة دنانير ، فانطلق بها إلى السوق ، فبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بأمه ، وكان الله به خبيراً فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة ؟ قال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي ، فردها إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني ، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمك ؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها قال الملك : فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها ، فأبى الفتى ، فرجع إلى أمه فأخبرها ، فقالت : إن الذي يأتيك ملك بصورة آدمي ليختبرك فإذا آتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل . فقال له الملك : اذهب إلى أمك وقل لها : أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير ، فأمسكها ، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها ، فكافأه الله على بره بوالدته فضلاً منه ورحمة .
وفي نهاية هذا الدرس تجيء قصة " البقرة " . . تجيء مفصلة وفي صورة حكاية ، لا مجرد إشارة كالذي سبق ، ذلك أنها لم ترد من قبل في السور المكية ، كما أنها لم ترد في موضع آخر ؛ وهي ترسم سمة اللجاجة والتعنت والتلكؤ في الاستجابة ، وتمحل المعاذير ، التي تتسم بها إسرائيل :
( وإذ قال موسى لقومه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة . قالوا : أتتخذنا هزوا ؟ قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال : إنه يقول : إنها بقرة لا فارض ولا بكر ، عوان بين ذلك ، فافعلوا ما تؤمرون . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ قال : إنه يقول : إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين . قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ، إن البقر تشابه علينا ، وإنا إن شاء الله لمهتدون . قال : إنه يقول : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلمة لا شية فيها . قالوا : الآن جئت بالحق . فذبحوها وما كادوا يفعلون . . وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، والله مخرج ما كنتم تكتمون . فقلنا : اضربوه ببعضها ، كذلك يحيي الله الموتى ، ويريكم آياته لعلكم تعقلون . . )
وفي هذه القصة القصيرة - كما يعرضها السياق القرآني - مجال للنظر في جوانب شتى . . جانب دلالتها على طبيعة بني إسرائيل وجبلتهم الموروثة . وجانب دلالتها على قدرة الخالق ، وحقيقة البعث ، وطبيعة الموت والحياة . ثم جانب الأداء الفني في عرض القصة بدءا ونهاية واتساقا مع السياق . .
إن السمات الرئيسية لطبيعة إسرائيل تبدو واضحة في قصة البقرة هذه : انقطاع الصلة بين قلوبهم ، وذلك النبع الشفيف الرقراق : نبع الإيمان بالغيب ، والثقة بالله ، والاستعداد لتصديق ما يأتيهم به الرسل . ثم التلكؤ في الاستجابة للتكاليف ، وتلمس الحجج والمعاذير ، والسخرية المنبعثة من صفاقة القلب وسلاطة اللسان !
لقد قال لهم نبيهم : ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . . وكان هذا القول بهذه الصيغة يكفي للاستجابة والتنفيذ . فنبيهم هو زعيمهم الذي أنقذهم من العذاب المهين ، برحمة من الله ورعاية وتعليم ؛ وهو ينبئهم أن هذا ليس أمره وليس رأيه ، إنما هو أمر الله ، الذي يسير بهم على هداه . . فماذا كان الجواب ؟ لقد كان جوابهم سفاهة وسوء أدب ، واتهاما لنبيهم الكريم بأنه يهزأ بهم ويسخر منهم ! كأنما يجوز لإنسان يعرف الله -
فضلا على أن يكون رسول الله - أن يتخذ اسم الله وأمره مادة مزاح وسخرية بين الناس :
وكان رد موسى على هذه السفاهة أن يستعيذ بالله ؛ وأن يردهم برفق ، وعن طريق التعريض والتلميح ، إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق جل علاه ؛ وأن يبين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بجاهل بقدر الله ، لا يعرف ذلك الأدب ولا يتوخاه :
( قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . .
وكان في هذا التوجيه كفاية ليثوبوا إلى أنفسهم ، ويرجعوا إلى ربهم ، وينفذوا أمر نبيهم . . ولكنها إسرائيل ! نعم . لقد كان في وسعهم - وهم في سعة من الأمر - أن يمدوا أيديهم إلى أية بقرة فيذبحوها ، فإذا هم مطيعون لأمر الله ، منفذون لإشارة رسوله .
تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه ، فقال لهم : واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي ، إذ قال موسى لقومه ، وقومه بنو إسرائيل ، إذ ادّارءوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا .
والهزو : اللعب والسخرية ، كما قال الراجز :
قَدْ هَزِئَتْ مِنّي أُمّ طَيْسَلَهْ *** قالَتْ أرَاهُ مُعْدِما لا شَيْءَ لَهْ
يعني بقوله : قد هزئت : قد سخرت ولعبت . ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب . فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازىء لاعب ، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبيّ الله ، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة ، وحذفت الفاء من قوله : أتَتّخِذُنا هُزُوا وهو جواب ، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه ، وحسن السكوت على قوله : إنّ اللّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فجاز لذلك إسقاط الفاء من قوله : أتَتّخِذُنا هُزُوا كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالى : قالَ فَما خَطْبُكُمْ أيّها المُرْسَلُونَ قالُوا إنّا أُرْسِلْنا ولم يقل : فقالوا إنا أرسلنا ، ولو قيل : «فقالوا » ، كان حسنا أيضا جائزا ، ولو كان ذلك على كلمة واحدة لم تسقط منه الفاء وذلك أنك إذا قلت قمت وفعلت كذا وكذا ولم تقل : قمت فعلت كذا وكذا ، لأنها عطف لا استفهام يوقف عليه ، فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية من الجاهلين ، وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك ، فقال : أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل . وكان سبب قيل موسى لهم : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ما :
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر ، قال : فقتله وليه ، ثم احتمله ، فألقاه في سبط غير سبطه . قال : فوقع بينهم فيه الشرّ ، حتى أخذوا السلاح . قال : فقال أولو النّهَى : أتقتتلون وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فأتوا نبيّ الله ، فقال : اذبحوا بقرة فقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلينَ قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا ما هي قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة إلى قوله : فَذَبَحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال : فضُرب فأخبرهم بقاتله . قال : ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا . قال : ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم ، فلم يورث قاتل بعد ذلك .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثني أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قول الله إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قال : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيا ولم يكن له ولد ، وكان له قريب وكان وارثه ، فقتله ليرثه ، ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى ، فقال له : إن قريبي قتل ، وأتى إليّ أمرٌ عظيم ، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبيّ الله . قال : فنادى موسى في الناس : أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا فلم يكن عندهم علمه ، فأقبل القاتل على موسى فقال : أنت نبيّ الله ، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله إليه : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فعجبوا وقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّه يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة لا فارِض يعني هرمة وَلا بكْر يعني ولا صغيرة عَوَان بينَ ذلكَ أي نصف بين البكر والهرمة ، قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما لَوْنُها قال إنهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فاقِع لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرّ النَاظِرِينَ أي تعجب الناظرين . قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنَا وَإنَا إنْ شاءَ الله لمهتدون قال إنه يقول أنها بقرة لا ذلول ، أي لم يذللها العمل ، تثير الأرض يعني ليست بذلول فتثير الأرض ولا تسقي الحرث يقول ولا تعمل في الحرث مسلمة يعني مسلمة من العيوب لاشية فيها . يقول لا بياض فيها . قالُوا الاَنَ جِئْتَ بالحَقّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ . قال : ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ، ولكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم . ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء الله لمهتدون لما هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألتهم أضعاف ثمنها ، فقال لهم موسى : إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها ، فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان ، فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه فقتله الله على أسوء عمله .
حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال ، وكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج . فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوّجه إياها ، فغضب الفتى وقال : والله لأقتلنّ عمي ولاَخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ولاَكلنّ ديته فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فقال : يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أصيب منها ، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني . فخرج العم مع الفتى ليلاً ، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله . فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه ، كأنه لا يدري أين هو فلم يجده ، فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم وقال : قتلتم عمي فأدّوا إليّ ديته . وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه . فرفعهم إلى موسى ، فقضى عليهم بالدية ، فقالوا له : يا رسول الله : ادع لنا حتى يتبين له من صاحبه فيؤخذ صاحب الجريمة ، فوالله إن ديته علينا لهينة ، ولكنا نستحي أن نعير به . فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا فادّارَأتُمْ فيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا : نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة ، أتهزأ بنا ؟ قال موسى : أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ . قال : قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى ، فشدد الله عليهم فقالوا : ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بينَ ذلكَ والفارض : الهرمة التي لا تلد ، والبكر : التي لم تلد إلا ولدا واحدا ، والعوان : النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها فافعلوا ما تؤمرون . قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال : تعجب الناظرين : قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها من بياض ولا سواد ولا حمرة . قالُوا الاَنَ جِئْتَ بالحَقّ فطلبوها فلم يقدروا عليها . وكان رجل من بني إسرائيل من أبرّ الناس بأبيه . وأن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبيعه ، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح ، فقال له الرجل : تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا ؟ فقال له الفتى : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا . فقال له الاَخر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا . فجعل التاجر يحطّ له حتى بلغ ثلاثين ألفا ، وزاد الاَخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه حتى بلغ مائة ألف . فلما أكثر عليه قال : لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا ، وأبى أن يوقظ أباه . فعوّضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ، فمرّت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة ، فأبصروا البقرة عنده ، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى ، فأعطوه ثنتين فأبى ، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى ، فقالوا : والله لا نتركك حتى نأخذها منك . فانطلقوا به إلى موسى ، فقالوا : يا نبيّ الله إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها ، وقد أعطيناه ثمنا . فقال له موسى : أعطهم بقرتك فقال : يا رسول الله أنا أحقّ بمالي . فقال : صدقت ، وقال للقوم : أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى ، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتى أعطوه وزنها عشر مرّات ، فباعهم إياها وأخذ ثمنها . فقال : اذبحوها فذبحوها ، فقال : اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش ، فأسلوه : من قتلك ؟ فقال لهم : ابن أخي قال : أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته . فأخذوا الغلام فقتلوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يذكر . وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس . وحدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس . فذكر جميعهم : أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي . غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى كان أخا المقتول . وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه . وقال بعضهم : بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته . إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه عن أمر الله إياهم بذلك ، فقالوا له : وما ذبح البقرة يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل فادعى على بعضنا أنه القاتل أتهزأ بنا ؟ كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قتل قتيل من بني إسرائيل ، فطرح في سبط من الأسباط . فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط ، فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا قالوا : لا والله . فأتوا موسى ، فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم وهم والله قتلوه . فقالوا : لا والله يا نبيّ الله طرح علينا . فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فقالوا : أتستهزىء بنا ؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالوا : نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه فتستهزىء بنا ؟ فقال موسى : أعُوذُ بالله أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس : لما أتى أولياء القتيل والذين ادّعوا عليهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم عليه ، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتّخِذُنَا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ قالوا : وما البقرة والقتيل ؟ قال : أقول لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، وتقولون : أتتخذنا هزوا
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )
وقوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } الآية( {[757]} ) : { إذ } عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمرْكم » بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم »( {[758]} ) .
وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء( {[759]} ) حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا ؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فكان جوابهم أن قالوا : { أتتخذنا هزواً } ؟ .
قرأ الجحدري «أيتخذنا » بالياء ، على معنى أيتخذنا الله( {[760]} ) ، وقرأ حمزة : «هزْؤاً » بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضاً : دون همز «هزواً » ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين ، وروي عن أبي جعفر وشيبة( {[761]} ) ضم الهاء وتشديد الزاي «هُزّاً » ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله ، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته ، وقال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، { أتتخذنا هزواً } ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره ، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل( {[762]} ) للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله » ، وكما قال له الآخر : «اعدل يا محمد » ، وكلٌّ محتمل( {[763]} ) ، والله أعلم .